Sunday 20 February 2011

ما من طبل إلا أجوف


      عوني ورث مزرعة جميلة ذات زرع و أشجار وارفة و ماء وفير، كان أبوه قد اجتهد لأعوام و أعوام برعايتها و متابعتها، كان يعمل في المزرعة بعض مزارعين منهم جعفر، و هو نشيط واسع الخبرة، لا يعرف إلا العمل بدون كلل، و حينما يبدأ لا يداخله الملل، كان جعفر يعين أبا عوني بشتى شؤون المزرعة، و يعتمد عليه أبو عوني كلما غاب، لكن عوني شاب متنعم ليس بذي خبرة لا بالزراعة و لا بالحياة، فحينما جاء ليحل مكان أبيه شكا له جعفر عدم قدرته العمل لوحده بكل الأعمال، إذ كان أبو عوني يقوم بأعمال كثيرة يتفرغ دونها جعفر لباقي أعمال المزرعة من حرث و بذر و حصد و لقط و ما إلى ذلك، فقرر عوني أن يعيّن من يعين جعفر بأعمال المزرعة، إلا أنه ما كان هذا هدف جعفر إذ أراد أن يتابع عوني ما كان أبوه يقوم به، بعد أيام جاء عوني و معه عماد، شخص قوي البنية كثير الكلام، فعرف جعفر نتيجة ذلك فكثير الكلام غالبا قليل العمل، لكن ما بيده حيلة فانصاع لرغبة المالك و ما له إلا السمع و الطاعة.
      عماد يحب الشاي، فكان كل يوم يصنع إبريقا من الشاي يكفيه من الصباح حتى الظهيرة، و يجلس عند بوابة المزرعة حتى الغداء فيتناول طعامه و ينام لبضع ساعات، ثم يعود ليعد إبريق شاي ثان ليجالسه حتى المساء و في نفس المكان بوابة المزرعة، و كلما لاحظ قدوم عوني من بعيد نهض و انتفض مسرعا إليه، يحييه و يبجله و يحدثه كذبا عن نشاطه و همته و تفانيه، و عن المشاكل التي واجهها و حلها بخبرته النادرة، و كل يوم يؤخذ عوني الغر بشخص عماد معسول اللسان، و يعود إلى حيث أتى إلى بيته دون سؤال جعفر عن الحال، الذي كان سيصدقه القول.
      بعد فترة من الزمن حدّث عمادٌ عوني عن حاجته لعامل آخر يعينه على المهام الشاقة الجديدة، إذ انه قد وسّع من الأعمال في المزرعة التي ما كلف عوني نفسه التحقق منها أو من صحة ما يدعيه عماد، فوافق و وكّله باختيار من يراه مناسبا لإعانته، و ما هي إلا أيام و احضر عماد فتى اسمه يوسف لإعانته، كانت مهام يوسف التي أوكله بها عماد هي إعداد الشاي، و في مواعيده المحددة، و علّمه الطريقة و مقادير المكونات بدقة، فبرع يوسف بتلك المهمّة الشاقة، مما أتاح لعماد وقت أطول من النوم صباحا و بعد الظهر، ذاك الوقت الثمين الذي كان يقضيه بإعداد الشاي المقدس، و اعتاد عماد حمل عصا بيده يلكز بها من حوله و يتسلى بها، فكانت كالرفيق الذي لا يفارقه صباح مساء، و أعاد عماد الكرّة، ففي زيارة عوني التالية أعاد الحديث عن المساعدين، و اختصارا فوضه عوني بتعيين العدد الذي يراه و الذي يفي بحاجته، و فورا عين مساعد ثان يقف بجانبه، مما أثار حفيظة يوسف، إذ رأى به منافسا ينازعه موقعه بوظيفة إعداد الشاي المقدس فشكا لعماد ذلك، ضحك عماد، و قال له بأنه يرى به من هو أكبر من تلك المهمّة، و أوكل إليه مهمّة حمل العصا التي اعتاد عماد حملها، فأصبح يوسف حامل العصا المباركة، و أوكلت للشاب الجديد مهمة إعداد الشاي المقدس.
      كل هذا يجري و جعفر بعيد عن العيون و الأحداث، يعتني بشؤون المزرعة كافة و التي ما عاد بوسعه الإحاطة بها، فذهب إلى عماد و حدثه بوجوب أن يساعده بالأعمال هو و الآخرين المحيطين به، فما كان من عماد إلا أن أزبد و أرعد، و بصوت مرتفع بجعفر صرخ قائلا: أتريد أن اترك مهمة حماية أطراف المزرعة من العابثين؟ أو أن يترك يوسف مهمة حمل العصا؟ أو أن يترك الشاب مهمة صنع الشاي؟ لا بد انك جننت، أتتعاطى شيء يهلوس و يلوث دماغك؟ اذهب، اذهب من هنا بالحال، فوق كل هذا تحرضنا على عصيان أوامر السيد المبجل وليّ نعمتك جناب المحترم عوني؟ اذهب قبل أن يحدث لك ما لا تحمد عقباه.
      عاد جعفر خائبا، و من تلك اللحظة قرر أن يعمل قدر ما يستطيع لا قدر ما تتطلب المزرعة، فما عاد يعمل سوى تلك الأعمال المحكومة بساعات عمله المعهودة، لا يبذل أي مجهود إضافي مهما اقتضت الحاجة، لكنه في كل ليلة يتحسّر و يتألّم لما يحدث في المزرعة من إهمال و تراجع و خراب.
      انقطع عوني عن مزرعته مدة من الزمن، حار عماد بالسبب و عزم الأمر لزيارته بالبيت ليُجيب على أسباب حيرته، و كذلك كان، و حين التقى عوني سأله، فتعذّر عوني بتعبه من السير إلى المزرعة، و إن ذاك الأمر أصبح يرهقه، فابتسم عماد و بذكاء خبيث أجاب: لا تنشغل أنا عندي حل فنحن لا نستغني عنك أبدا، فإننا أوضع من حشرات تحتشد عند روث من دونك. و استأذن عماد و خرج مسرعا إلى المزرعة، و نادى يوسف و أمره أن يحضر البغل الذي يدير الساقية بسرعة و أن يغسله و ينظفه، و بعد تمام المهمة قام عماد فأسرج البغل و زينه، و هو في غمرة تجهيز البغل جاء من بعيد جعفر يصيح، مَن قطع الماء عن الزرع؟ فتصدى له عماد و ردعه، و اعلمه بان السيد المبجل ولي النعمة جناب المحترم عوني من أمر بذلك، فما كان من جعفر إلا أن طأطأ رأسه و عاد خائبا إلى ما كان عليه، و بالحال أخذ عماد البغل، و مسرعا إلى عوني اقفل عائدا يحثّ البغل حتى أوصله لعوني الذي فرح و انتشى بما رأى، و شكر عماد و أخذ البغل و عقله، دخل البيت و على زوجته نادى و سألها: أين العباءة؟ أي عباءة هذه؟ ردت زوجته ضاحكة، فأخذ عوني بيدها و بالخارج قال: انظري، فما أن شاهدت البغل حتى فهمت، و بالحال قالت: نعم لابد لك من عباءة تليق بالبغل، فذهبت إلى مكتبة في البيت ضمت بعض الكتب القيّمة القديمة، كان أبو عوني يطالعها و يراجعها بحياته، إلا أنها ما عاد لها لزوم الآن إذ أن عوني من العبقريّة التي استوعبت و تجاوزت بمراحل ما احتوت تلك الكتب، باعتها و اشترت بثمنها عباءة مذهبة فاخرة.
      بالصباح سرى عوني بسذاجة و تباه راكبا بغله، و إلى المزرعة أسرع، و في طريقه حيى كل من قابل من الجيران بتعال من على صهوة بغله، مستمدا عنفوانه و علوه من البغل و عباءة البغل، و وصل المزرعة، فأسرع يوسف و امسك بخطام البغل، و اقتاده و هو يمطر السيد المبجل بعبارات المديح و التبجيل، و سأل عوني عن عماد، فرد يوسف انه آت بالحال، إلا أن عماد و كما العادة نائم، و كلّف يوسف الشاب الآخر أن يذهب و يبحث عن سيدهم عماد، و أن يأت بالحال فالسيد المبجل هنا، حضر عماد مهرولا، نظر إليه عوني و سأله مِن على ركوبه عن سبب غيابه، فما كان من عماد إلا أن أجاب: إن بعضا من الشباب الأرعن اللامبالي اللامسئول، كان يرمي ببعض الحجارة في البئر الجنوبية، فذهبت لأذود عن حمى البئر تلك، و ها أنا هنا رهن أمرك و إشارتك.       سرّ عوني مما سمع عن تفاني عماد بالعمل و إخلاصه، و هو لا يعلم عن تلك البئر أي شيء، أو إن كان هناك بئر جنوبية حتى.
      من بعيد شاهد جعفر بغل الساقية، فأسرع ليستعيد البغل ليسقي الزرع العطش، همه الزرع و عطشه فما رأى من يمتطي صهوة البغل، إلا أن الشاب و يوسف تصدوا له، و أبعدوه عن المكان، فالتفت عوني و سأل عما به جعفر، فابتسم عماد و اسرّ لعوني: إن جعفر منذ مدة و هو يتردد عند مجموعة من الرجال، يتعاملون مع نوع من الأعشاب يحرقونها و يستنشقون دخانها، فتذهب بألبابهم و تودي بهم إلى تصرفات و أقاويل لا محسوبة و لا متزنة، و العياذ بالله، و لنحميك و نحمي مقامك مما قد يقدم عليه من تصرفات لا نعرفها، نحاول أن نبعده عنك، و أبقيناه بالمزرعة كرامة لأبيك و ذكراه. أجفل عوني خوفا، و شكر عماد على حمايته و عونه الدائم له.
      استمرت الأيام حتى جاء جعفر لعماد يشكو انقطاع الماء كون الساقية بلا بهيمة، و اقترح أن يأتي ببهيمة أخرى غير بهيمة عوني، فالمزرعة تموت كل يوم و الزرع يذبل و الشجر عطش، فوعده عماد بان يحل المشكلة، فأتى بعد أيام بعامل جديد مسئول عن الساقية، فلقي جعفر و اعلمه بأنه قد حل المشكل بان احضر عاملا مسئولا عن الساقية.
      قهقه جعفر ضاحكا و بعينه دمعة حزن و قال: الساقية بحاجة لبهيمة تديرها ليس عامل يشرف على ساقية بلا بهيمة، ما بك؟ أتحضر من يدير لا شيء؟ على كلّ أنا أذهب للعامل الجديد و أرى ما الحل لديه؟
      حسناً قال عماد اذهب اسمه رزق الله اذهب.
      وصل جعفر عند الساقية فوجد ذاك الرجل جالسا يناظر الغيوم، اقترب منه و بعد التحية، سأله عن كيف سيخرج الماء من البئر و يروي مجاري الماء في المزرعة؟
      فأجاب رزق الله انه منذ الصباح و هو يدعو الله أن تمطر.
      نظر إليه جعفر و بعينه حمرة و بدهشة قال: الآن موسم الصيف ما من مطر في الصيف، ما بك و لِمَ هي البئر و الساقية؟
      حسنا حسنا أجاب رزق الله لا تغضب غدا سأصوم و من الفجر سأدعو الله أن تمطر.
      نظر جعفر و وضع يديه على رأسه و صاح: إلهي، إلهي، لو أن الدعاء بلا عمل يأتينا بقوتنا لجلسنا بالمعابد وما زرعنا و لا سقينا، و بتنا ندعو ليلا نهارا أن يأتينا رزقنا، حسبي الله حسبي الله.
      و ذهب جعفر تاركا ذاك الرجل يناجي ادعيته و جعفر يناجي خالقه بان لا يؤاخذه بما فعله السفهاء، و أن لا يحمله ما لا طاقة له به، و ترك المزرعة و سعى يسترزق في البلاد.
      بعد زمن ليس بالبعيد، عاد جعفر صدفة إلى المزرعة، فوجدها خرابا يبابا، و يجلس على بابها رجل رث الثياب أشعث الشعر اغبر، اقترب منه مسلما فرد السلام، فعرفه انه عوني يجلس وحيدا مكسور الخاطر حزينا، فعرّفه بنفسه، فبكى عوني و ضم جعفر إليه، و بحديثه نبرة عتب: لمَ تركه و ذهب و لَمْ ينصحه في تلك الأيام؟
فأجاب جعفر: أنصحك؟ كيف ذاك و أنت من أحاط نفسه بثلّة من المنتفعين المنافقين، و بعد أن كنت عوني المحبوب، تقوقعت بألقاب زائفة تبجل بغلتك و عباءتك، حتى تركتك بلا عباءة أو بغلة؟ اعتمدت على عماد كثير الكلام، ألا تعلم أن كثير الكلام قليل عمل؟ بل انه كان كالطبل كلامه كثير و صوته عال و لا ينطق إلا من فراغ. كيف أنصحك و أساس النصح الإصغاء، و أنت ما أمكنك الإصغاء من علٍ، فوق صهوة بغل الساقية، فالإصغاء لا يكون بسماع الصوت بل الإصغاء يكون بالإنصات للقلب.
      عوني: حسنا يا جعفر لا تفتح الجروح و تعبث بدمي النزيف.
      فرد جعفر: أنا لا افتح الجراح فلو تعلم جرحي أعمق و اكبر.
      عوني: حسنا يا جعفر أتساعدني لأعيد ما كان؟
      جعفر: أنا لا أساعدك بل أنت من يساعد نفسه، أنا سأنقل إليك بعض مما كان عليه أبوك، إذ لا أستطيع أن انقله لك كله، فهو جم و كثير لا يتعلمه أي شخص، فهو يأتي خَلقا و من آلام الدروس، نعم أنا كرامة لأبيك سأعينك لكن بشرط واحد، أن تأتي و تعمل بيدك، و كل يوم كما كان أبوك. أبوك يا عوني كان قد أحب هذه المزرعة و لذلك هي أيضا أحبته، أبوك يا عوني كان يمسك أغصان الشجر كطفل يداعب أطراف ثوب أمه، أبوك كان يبات بجوار النعجة إذا ما قاست حتى تلد، أبوك كان أفضل عطوره رائحة التربة العطشى إذا ما أصابها أول الوطر، أبوك كان يداعب زهر الليمون و كأنه جدائل حورية، أبوك كان ينظر حب الزيتون بقدسية نور زيتها الذي كاد يضيء. فكانت هذه المزرعة تعشقه حد القداسة، فكلما مر تعبق الأجواء بعبير زهر الليمون يتراقص بين ثنايا النسمات، و زيتونها يدمع زيتا فرحا بقدومه، و تلك الأنعام كانت تجتمع حوله و كأنه يبادلها الحديث، أبوك يا عوني قسماً رأيته يبكي شجرة احترقت بصاعقة خرقاء، هذا بعض مما كان عليه فلا أنا ولا أنت قد نجاري بعضا من ذاك إلا بالاجتهاد و الصبر و اعتبار الدروس.

فارس غرايبة    

No comments: