Wednesday, 11 November 2009

الوالي و المسكين و الحمار العنيد



      في زمن غابر قديم، عاش المسكين أمين الذي يعتاش من نقل الأحمال على حماره العنيد في سوق المدينة، تلك المدينة الكبيرة ذات الأسوار المنيعة و قلعتها الحصينة التي اتخذها الوالي مفوض السلطان منزلا له، متحصنا من الأعداء في تلك القلعة، أعداء لم يرهم يوما و ما عرفهم حتى إن كل السكان تحدثوا عن وهم وجود الأعداء و وسواس الوالي.
      كان الواهم أسير قلعته و إذا أراد التنقل كان يمر مسرعا بعربة مغلقة مع جموع و جموع من عسسه و جنده المدججين بالسلاح حتى أن ما من احد من السكان عرف يوما للوالي شكلا، حتى إنهم أشاعوا انه ذا شكل لا بشري أو انه هجيــن بين الإنسان و كائن عجيب، لكن الوالي كان عادي الشكل و المنظر إنسان الهيئة و المظهر، لكن من غربته التي لف نفسه بها استوحش و قلبه تحجر، و كل مرة و مرة مد الوالي أسوار قلعته و زادها ارتفاعا و ارتفاعا، حتى بات السكان يسمون القلعة القوقعة و تندروا أن الوالي أوشك أن يحجب الهواء لولا انه أدرك حاجته للتنفس.
      فــي يوم عادي ككــل أيام المسكين أمين، كان يقف عند طرف السوق يرجو الرزق من الكريم، و يسأل المارة إن كان احدهم بحاجة لامين و حماره، ليحمل ما يشترون و إيصاله، إلا إن أمين غاب حظه في ذاك اليوم، و كان الوالي مضطرا مارا من جانب السوق مسرعا و جموع الحرس تصيح و تهش على المارة كأنهم بهائم ضالة، و في تلك اللحظة انتفض حمار أمين المسكين و فر من بين يديه ليقف ثابتا متسمرا أمام عربة الوالي، نعم عربة الوالي دون كل العربات، و حمار أمين المسكين دون كل البهائم.
      في لحظات تجمع العسس و الجند الحرس و بادروا الحمار ضربا و ركلا إلا أن حمار أمين مشهور بعناده الذي لا يلين، عنيد الحمار عنيد، ارتعد الوالي خوفا و صرخ يسأل عما وقع، لما توقفنا و ما الذي لمسيرنا منع؟؟ انه الحمار يا سيدي رد قائد الحرس، ماذا قلت الكفار الفجار؟ لا يا سيدي الحمار، ماذا أتنعتني بالحمار؟ لا يا سيدي توقفنا بسبب حمار، لا لا حذار إنها مكيدة أعداء، يستعملون البهائم لقتلي غيلة، اقتلوا الحمار، هذا أمر الوالي، فالتفت قائد الحرس و صاح معلنا أن الحمار من الأعداء المتآمرين على الوالي، و ابرم الأمر بقتل الحمار، فصرخ أمين المسكين قائلا: أنا أبعده عن طريقكم، اسمحوا لي، فاخذ أمين بالحبل و ابعد حماره عن طريق موكب جناب الوالي، و التفت إليه قائد الحرس و سأله هل أنت مدبر مؤامرة الحمار؟؟
      لا يا سيدي رد أمين المسكين أنا مجرد مسترزق الأحمال في السوق، و ما لي أي سبيل إلى أي مؤامرات، و إنني لأستنكر و أشجب و أعلن عدم مسؤوليتي عما فعله الحمار بالوالي، و كان أمين من الذكاء إذ انه لم يبت إلا و هو خارج المدينة مهاجرا ساعيا وراء سلامته، و اشتهر في البلاد بأمين صاحب حمار مؤامرة الوالي.

فارس غرايبة

Sunday, 8 November 2009

شامخة


      في واحة نائية صغيرة في صحراء قاحلة بعيدة يشق على أجدر الحداءين عبورها ، نخلة باسقة طولها كأنما كان يصل السماء و يشق السحب بدون عناء ، تفرد ظلها بافتخار و أنفة تفرح بكل طائر يحط على سعفها مستريحا من وعثاء سفر أو هجرة ، و حين يكمل سفره أو هجرته لا تبالي ، فهي على يقين من أن هناك آخرين سيصلون و يحطون رحالهم على أغصانها عاجلا أم آجلا ، و هي مكتفية بسلسبيل ماء يحف بها من عين ماء كانت رفيقتها منذ أن كانت الذاكرة.
      في يوم من الأيام جاء طائر غريب لا تعلم النخلة له شبيه و لم تألف لشكله مثيل ، سقطت من فيه الطير حبة كان بمنقاره يداعبها ، ثم طار ذاك الطائر العجيب غير مبال بما ترك عند طرف النخلة ، و النخلة كذلك لم تأبه لتلك الحبة.
      يوما بعد يوم أنبتت الحبة عودا أخضر و بعض وريقات ، وما لبثت أن تشبثت بطرف النخلة التي ما زالت لا تكترث لتلك النبتة ، و كل يوم تستطيل و تمتد و تلتف حول النخلة و تكبر أوراقها و تشتد ، حتى إن شوكا لها بدأ يحتد ، و هنا بدأت النخلة تشعر بوخز و جذب ، ارقها في الليل و إلى النهار امتد.
      فنظرت النخلة إلى تلك النبتة و بنبرة غاضب محتد ، حدثتها بصوت هادئ واثق فيه شيء من دفء حليم لغضبه كظيم ، ألا آيته النبتة الغريبة هلا رحلت عني و أزلت أوراقك و أبعدت شوكك عن جنباتي فإنني من تطفلك غاضب و لرحيلك ناظر و راغب.
      ردت النبتة بصوت ناشز بغيض فيه من اللؤم ما يعد ، لا لن افعل و على جنباتك باقية و سأمتد حتى أطاولك ارتفاعا ، و حين أزهر و ينتشر بذري لن يبقى منك أيتها النخلة إلا ذكرى عود شاحب كعصف مأكول.
      ساد صمت رهيب تبعته تنهيدة من النخلة تراشقت ماء النبع لعمقها ، و صبرت النخلة أيام و ليال و تحملت و تجلدت و النبتة اللئيمة تمتد و تمتد و إلى أعلى النخلة تصل و ترتد.
      ثم جاء اليوم المنتظر ريح صرصر عاتية صحراوية جافة خانقة ، باردة لها صفير رهيب تقتلع و تنحت الصخر العتيد ، نظرت النبتة للنخلة الشامخة و كأن الريح العاتية للنخلة نسيم عليل ، فقالت ألهذا اليوم كنت تصبرين ، أبهذا اليوم كنت تراهنين ، فالتفتت النخلة إلى النبتة البائسة و أجابت ، أنا هنا قبل كل حبات الرمل ، أنا هنا قبل الطير و الصخر ، حتى إن الشمس يوما قالت أنني هنا من قبل الفجر ، و القمر يبدر كل شهر لي وحدي في هذا القفر ، دعوتك للجوار فأبيت لا بل تمردت و تطاولت ، و في الصباح كانت النبتة رمادا اسودا ليس لها أي اثر.

فارس غرايبة