في واحة نائية صغيرة في صحراء قاحلة بعيدة يشق على أجدر الحداءين عبورها ، نخلة باسقة طولها كأنما كان يصل السماء و يشق السحب بدون عناء ، تفرد ظلها بافتخار و أنفة تفرح بكل طائر يحط على سعفها مستريحا من وعثاء سفر أو هجرة ، و حين يكمل سفره أو هجرته لا تبالي ، فهي على يقين من أن هناك آخرين سيصلون و يحطون رحالهم على أغصانها عاجلا أم آجلا ، و هي مكتفية بسلسبيل ماء يحف بها من عين ماء كانت رفيقتها منذ أن كانت الذاكرة.
في يوم من الأيام جاء طائر غريب لا تعلم النخلة له شبيه و لم تألف لشكله مثيل ، سقطت من فيه الطير حبة كان بمنقاره يداعبها ، ثم طار ذاك الطائر العجيب غير مبال بما ترك عند طرف النخلة ، و النخلة كذلك لم تأبه لتلك الحبة.
يوما بعد يوم أنبتت الحبة عودا أخضر و بعض وريقات ، وما لبثت أن تشبثت بطرف النخلة التي ما زالت لا تكترث لتلك النبتة ، و كل يوم تستطيل و تمتد و تلتف حول النخلة و تكبر أوراقها و تشتد ، حتى إن شوكا لها بدأ يحتد ، و هنا بدأت النخلة تشعر بوخز و جذب ، ارقها في الليل و إلى النهار امتد.
فنظرت النخلة إلى تلك النبتة و بنبرة غاضب محتد ، حدثتها بصوت هادئ واثق فيه شيء من دفء حليم لغضبه كظيم ، ألا آيته النبتة الغريبة هلا رحلت عني و أزلت أوراقك و أبعدت شوكك عن جنباتي فإنني من تطفلك غاضب و لرحيلك ناظر و راغب.
ردت النبتة بصوت ناشز بغيض فيه من اللؤم ما يعد ، لا لن افعل و على جنباتك باقية و سأمتد حتى أطاولك ارتفاعا ، و حين أزهر و ينتشر بذري لن يبقى منك أيتها النخلة إلا ذكرى عود شاحب كعصف مأكول.
ساد صمت رهيب تبعته تنهيدة من النخلة تراشقت ماء النبع لعمقها ، و صبرت النخلة أيام و ليال و تحملت و تجلدت و النبتة اللئيمة تمتد و تمتد و إلى أعلى النخلة تصل و ترتد.
ثم جاء اليوم المنتظر ريح صرصر عاتية صحراوية جافة خانقة ، باردة لها صفير رهيب تقتلع و تنحت الصخر العتيد ، نظرت النبتة للنخلة الشامخة و كأن الريح العاتية للنخلة نسيم عليل ، فقالت ألهذا اليوم كنت تصبرين ، أبهذا اليوم كنت تراهنين ، فالتفتت النخلة إلى النبتة البائسة و أجابت ، أنا هنا قبل كل حبات الرمل ، أنا هنا قبل الطير و الصخر ، حتى إن الشمس يوما قالت أنني هنا من قبل الفجر ، و القمر يبدر كل شهر لي وحدي في هذا القفر ، دعوتك للجوار فأبيت لا بل تمردت و تطاولت ، و في الصباح كانت النبتة رمادا اسودا ليس لها أي اثر.
فارس غرايبة
No comments:
Post a Comment