منذ أيام و أثناء متابعتي لمحاكمة حسني مبارك، استغربت طلب أحد المحامين إجراء فحص للتأكد من صحة شخصية المتهم، و أنه هو حسني مبارك بالفعل أم لا، إلا أنني و بعد وهلة استدركت بعد استقراء شعور ذاك المحامي، معذور فهو كما كلّنا أمضى كثيرا من سني عمره يدرس و يسمع و يقرأ و يشاهد حتى أصبح هو نفسه يتحدث بنفس وتيرة التمجيد و المديح المتصل للسيد الرئيس، الملهم البطل صاحب الفكر النير المستنير، الإنسان الراعي الحاني صاحب القلب الكبير، الرئيس الذي أوصلته الأبواق إلى مراتب الآلهة و الأرباب "حاشا لله"، فنازعت نفس ذاك المحامي الكفر بكل ذلك، فكان أسلم لعقله بدل التخلص من ذاك الكم الهائل من الصور و التصاوير أن ينكر أن هذا الشخص هو نفسه صاحب الصورة المغايرة لما زُرع في ذهنه و أن الماثل في قفص الإتهام ليس هو، لأن ذاك الموصوف لا يمكن أن يكون كهذا أو وراء القضبان. و أتابع كل ما يدور حولي مقارنا بما مر علي من نظريات و تنظيرات، قواعد و فلسفيات، محاولا الإستلهام لاستقراء أي شيء.
فالشيخ "أفلاطون" و على لسان "جلاو كون" قال أن القوانين هي نتاج العقد الاجتماعي، و هذا العقد إتفاق الناس على الوسيلة التي تحول دون ارتكاب الظلم، أي تعاقد الناس على التنازل عن الممارسة الحرة لإراداتهم مقابل حماية أرواحهم و مصائرهم. يا شيخ إذا ما عاد أحد من اطراف العقد يحترم هذا التعاقد، لا بتصرفاته و لا بكلامه، نفهم أنها فرطت؟ و بصراحة شرد ذهني حيرة فيما قاله الشيخ "أفلاطون" عن أن العدالة تتحقق بالارتفاع بعقلية المواطن و رغباته نحو الكمال.
و عاد الشيخ بكتابه "الجمهورية" و ذكر أشكال الدول من الدولة العادلة و دولة الاستبداد مرورا بالدولة التيموقراطية و الدولة الاوليجاركية و الدولة الديمقراطية. اسمحلي و بتواضع أضيف الدولة الهلامية أو دولة "الجيلو"- الجيلو: تلك الحلوى الهلامية الرخوة المكونة من "جيلاتين" و بعض الاصباغ السامّة- و عودة إلى موضوع دولة "الجيلو"، فهي تأتي بعدة ألوان منها اللون الأحمر أو اليساري و اللون الأخضر أو اليميني و اللون الأصفر أو العصى من المنتصف، هذه الدولة تتخذ شكل الوعاء المحتوي لها، لكن ما أن يُزال الوعاء تتكشف هلاميتها و تظهر على حقيقتها الهزيلة بلا قوام أو أي صلابة، لإفتقارها لأي مكونات غير الهلام "الجيلاتين" و الأصباغ السامة، فيتسنى لأي كان أن يعبث بها مشتتا لكيانها و كينونتها.
السفسطائيون ربطوا كل الحركات بالفصاحة و أستعمال أصحاب الفكر الديمقراطي الفصاحة كوسيلة لتأليب الشعب على قلب الأوضاع. كلام واضح لكن هل حركات تدمير الفصاحة مقصودة لدرء هكذا خطر؟
و يا عم "توماس مور" بالنسبة لجزيرة "يوتوبيا" أقول باختصار فعلا "المكان غير الموجود".
و يا "توماس هوبس"، "اللوياثان" أصبح في كل مكان.
جان لوك، اين انت يا رجل؟
السيد كونج فو دزه أو "كونفوشيوس" في كتابه "التعليم الأكبر" ركز على أن الأسرة هي الركيزة في النظام الإجتماعي الطبيعي و "أحب لغيرك ما تحبه لنفسك"، يعني سبحان الله حسست أن "كونفوشيوس" يصف مجتمعنا تماما يعني الكل هنا يفيض "جن" و "لي" دخيلك لا تجنني، و أسأل أليس النظام الإجتماعي الطبيعي يحتاج لأسرة طبيعية؟
و للإختصار و إبعادا لملل الإسهاب، يحضرني قول "مكيافللي" إذا كان من الضروري لظهور موسى أن يكون الاسرائيليون عبيدا في مصر، و أن يضطهد الماديون أبناء فارس حتى تبدو شجاعة "كورش"، و أن يكون الأثينيون ممزقين متفرقين لتتجلى عبقرية "تيسيوس". أن تكون إيطاليا على ما هي عليه من أوضاع راهنة، و أن يكون أهلها مستعبدين أكثر من اليهود، و مضطهدين أكثر من الفرس، و ممزقين أكثر من اليونانيين، لا زعيم لهم، و لا نظام، مغلوبين على أمرهم، مسلوبة أموالهم، ممزقين، أذلاء. فإن من الضوري في الوقت الحاضر -وقت مكيافللي- الإعتراف بقوة عبقري إيطالي. تحضرني هذه المقولة لكن باستبدال الأماكن و الأزمان.
ختاما استشرف ما خرجت إليه من أن ليست الشعوب هي المندسّة. و لا يفوتني أن أعتذر من كل من ورد اسمه فيما كتبت، لكم مني كل الاجلال و الاحترام، لكن اعذروني فأنا واحد من هذا الزمان.
فارس غرايبة