Friday, 4 January 2013

بترا



بعد اتهام مغرض من ولدي بأنني كالمعتكف في صومعة، و بتآمر من بقيّة عصابة أسرتي، و خروجاً من عزلتي التي باتت تقوقع انطوائيتي، نزلت عند رغباتهم بعد إلحاح و نوينا زيارة بترا.
اتصلت بأحد المكاتب السياحية سبق و تعاملت معه لكن للسياحة خارجاً، سألت عن إن كانوا ينظّمون رحلات داخلية، فسألتني الموظفة عن جنسيتي، انتشيت إذ توقعت أن هناك برامج بأسعار خاصة للمواطنين كوني عرفت أن تذاكر دخول بترا للأردنيين مخفضة حتى أنها زهيدة، إلا أنني صُدمت عند سماعها تقول أن مكتبهم لا يأخذ سياحاً أردنيين! حتى أنت يا بروتس؟ ألا يكفينا حجم المهانة التي نمسحها بذقوننا أو تُمسح بها ذقوننا في طوابير السفارات، و خلع الأحذية في المطارات؟ و التفتيشات التي كانت دائماً عشوائية دون تمييز لا للون شعر أو بشرة أو حركات أيدي (يميزوننا بالخارج بكثرة استعمالنا لأيدينا أثناء الحديث)، جميل أن لا نستورد كل شيء فها هي الإهانات و المهانات باتت تنتج محلياً و بجودة لا تقل عن المستوردة منها. أثار جوابها حفيظتي، و بالتأكيد ما حرت باختيار ما يوضّح بجلاء امتعاضي و استحقاري لهم كمكتب، ردّدت الفتاة عبارات الاعتذار و أعربت عن أسفها فأسكتّها معرباً بالمقابل عن شديد أسفي لكل تعاملاتي السّابقة مع هذا المكتب صاحب السمعة التي كانت و أشدد على كانت جيّدة، و على ذلك كان القرار بالاعتماد على الموارد المحلية و القدرات الذاتية و ننزل وحدنا دون الاعتماد لا على معونات خارجية و لا مساعدات و لا تعاون دولي.  
بترا و لا أدري لِمَ بتنا نسميها البتراء، فهي سمّيت بترا نسبة للصخر، ربما أردنا تعريبها فبترناها كجزء من عمليات بتر العربية قاطبة، أليس حرياً أن نسميها نبطيا كون الاسم نبطية محجوز للبنان، لكن فلنفلسف الأمور و نسيّسها و نعيش سويّة حلمنا الوحدوي العربي، فنقول: ندعوا الأشقاء في لبنان إلى تبادل الأسماء فتصبح نبطيتهم بتراء وبترانا نبطية.
خرجنا، فما شعرنا إلّا و نحن على تقاطع الكرك عند القطرانة، لا لعدم انتباه أو لاستمتاع شتّتْ به أذهاننا إنما لكون كل الشّواخص كانت مغطاة بملصقات مرشحي انتخابات مجلس النواب الأفاضل، (الأفاضل: إضافة لدرء المخاطر)، و تذكّرت برنامجاً تلفزيونياً مفيداً مملاً جداً (جداً: لكم الخيار بربطها بالفائدة أو بالملل)، اسمه المناهل، فشاخصة كُتب عليها (السر انتخبوا مر مرشّحكم بة) فكنّا نحزر المستور وراء الملصقات، ليس المقصود المستور سياسياً، كلا كون أكبر أبنائي عمره تسع سنوات و مخزونه من البراءة لم تلوثه السياسة بعد، فكنّا نكتشف أصل الشاخصة (السرعة مراقبة) نعم، نعم السرعة مراقبة. و تذكّرت صورة لأحد المرشّحين و هو يقود جراراً زراعياً، فأقول لمن استهجنوا الصورة، و أنا منهم، و جعلوا منها باباً للتندر، أخشى ما أخشاه أن كهكذا مرشّح يصبح غداً نائباً ونصبح نحن كلنا باباً للتندر، و في جوف هذا السّطر تذكّرت أن كلمة جرار في السعوديّة تعني قوّاد، بذلك تصبح الجملة لديهم "يقود قواداً"، أشعر و كأنني في درس صرف اللغة العربية. و بما أنّنا تطرّقنا للإنتخابات، فالإنتخابات في كل الدنيا وجدت لاختيار أو فرز النّخبة إلا عندنا فأظنها فقط للاختيار أو الفرز.
هكذا حتى عرجت بنا الطريق إلى الشوبك التي سمّوها الصليبيون (مونتريال)، و خطرت ببالي فكرة الوحدة العالمية فيصبح الكوابكة شوابكة، و يعودوا عن سرقتهم إسم هو لنا و لن نرضى تبادل الأسماء لتصبح مونتريالهم شوبكاً فهم لا يشاركوننا حلمنا الوحدوي العربي بل أظنهم يشاركوا العالم الحلم الهجروي الكندي.
انحدرت بنا الطريق إلى بترا (لم اضف ال التعريف لاصراري على أعجمية الاسم) ذَهَل أبنائي المنظر الذي لم يذهلني ليس لأنه غير مذهل بل لأنني رأيته سابقاً، فقد زرتها في مطالع ثمانينيات القرن الماضي، تشعرني هذه الجملة بكهولتي (الكهل: الأربعيني الذي اتّشح شعره ببعض ابيضاض و ليس كما يظن البعض أنه العجوز)، كانت تلك الرحلة في ذاك الزمن الجميل، برفقة أهلي، على طريق العقبة القديم، الذي كان يمر بمأدبا إلى الكرك مرورا بوادي الموجب، الذي كان يحتاج لجسر معلّق، لكني أعلم أنه لولا اللّعق لكان كل جسر ببلدي معلّق. نعود إلى رحلتنا هذه، لكن ما أذهلني الإهمال الذي حظيت به تلك الأعجوبة، للأسف، في بلاد زرتها تجدهم يجعلون من خشبة وقف عليها زنديق أرعن تغنى بغانية وضيعة معلماً يحج إليه البشر من كل حدب و صوب، أمّا بترانا فلا بواكي لها.
اتمنى أن لا تكونوا قد تُهْتُم بين السطور، إذ قال بعضهم أنني كمن يقود مركبة لايدري إلى أين يريد أن يصل، و هنا أسأل: مَن منا يعرف إلى أين يتجه ألسنا كلنا من عليّة القوم حتى ليّة القوم خراف تساق إلى أتون المجهول يداعب خيالنا أحياناً ذاك الزّنيم نتاج سفاح بين تفاؤل و أمل الذي أسمياه رضى؟ و لا أدري العين بعليّة هل كانت على و أدغمت ع أم كلنا ليّة؟
هل وصلتم معي لما أريد أن أصل إليه؟ باختصار، بترا أعجوبة جميلة عني بها الأنباط الأوائل و أبدعوها، و كأنما من بعدهم بتر الإبداع و انقطع، إن ببترا تبرا ينتظر من يستخرجه، و كأني بمن لا يريدوا أو يعيقوا استنباط ذاك التبر لغاية في نفس يعقوب أو ليعقوب، دون الحاجة لوضع جلد النعجة عليه.
دمتم بخير.

No comments: