Tuesday, 30 April 2013

غرفة الفئران



كنت بالرابعة أو الخامسة من العمر لست أذكر تماماً فالصور تبرق كلمحات بين الضباب في ليلة مبرقة تضيء للحظة و تعاود الغرق في ظلمات الليل البعيد، ذكريات أول يوم لي بالمدرسة في دولة الإمارات، كانت من أحسن المدارس هناك، الراهبات، بجانبي ذاك الطفل يلعب بمركبة صغيرة، دخلت الصف ترتدي ثوباً أزرق داكن، نظرت إليه أمسكت بلعبته هصرتها بين أصابعها الحديدية و أعادتها بقايا فتات، نظرت إليها، تقلب نظري بحيرة بينها و بين ذاك الطفل بجانبي، شيء دخل فمي عبث به سرق تلك الأسماء التي علّمها ربي لجدي جميعاً.

في الباحة، و لأن الأطفال أكثر الكائنات اجتماعية تكونت الصداقات بلحظات، فالبراءة تلك لم تلوثها بعد مظاهر عنجهية ترف الأنا، كان بعضهم يتحدث عن حجرة الفئران، مررنا بجانب باب من الحديد أصم يجمع خلفه ظلمة تزيد اسطورة الفئران رعباً، صور الفئران بكل أشكالها تبدعها التخيلات بلحظات، نتدافع مبتعدين، يغمرني حزن على صورة عديمي الحظ الذين زُج بهم و أدخلوا غرفة الفئران، سؤال وحيد يطرق كل علامات الاستفهام، أولئك الذين أدخلوا غرفة الفئران أليس لهم أمهات، يهرعن لنجدتهم و تخليصهم من عدوان الفئران؟

بعد الفرصة عدنا إلى الصف، بعد لحظات عادت تلك التي ترتدي الثوب الأزرق الداكن ممسكة بيدها ولد يكبرنا سناً مطأطأ الرأس صاحت لا أذكر الكلمات لكن أذكر أنها طلبت منا أن نصفق له بأقدامنا، صفقنا جميعاً بحماس ليس لعلمنا بجرمه أو لكرهنا له بل ارضاءً لصاحبة الثوب الأزرق الداكن.

عدت إلى البيت، جلست أحدث نفسي، ليست هذه المدرسة التي حدثاني عنها والدي، أين الألعاب و النزهات؟ أين السعادة و الفرحة التي قال أبي أنها تملأ الباحات؟ و حتى لباسي كرهته مريول كالبنات، سردت لوالدي ما عرفت من أهوال ذاك اليوم، و الفئران و لعبة صاحبي التي باتت فتات، و ذات الثوب الأزرق الداكن، و بالنهاية قراري بإصرار أن لا عودة لي إلى ذاك المكان، فكان ذاك يومي الأول و الأخير.

بعد بضعة أعوام عدنا إلى الأردن، كنت بالصف الأول، دخلت مدرسة بقيت بها حتى نهاية الاعدادية، ذكرياتي بها كثيرة، من استاذ الاجتماعيات الذي كان يرفع الطالب من "سالفيه" بالهواء ثم هاوياً به نحو الأرض، أو استاذ الرياضيات الذي استعاض عن صفع الطلاب بعد أن ادخله ذاك الصفع بمشاكل كبيرة استعاض عنه بالبصق، إلى استاذ الرياضيات الآخر الذي كان تعليم جدول الضرب جدولاً للضرب فعلاً، مروراً بأستاذ اللغة العربية الذي لم يشف غليله الضرب بالعصى بالطريقة التقليدية فابتكر الضرب على ظهر الكف فكانت عصاه تهوي على مفاصل أصابعنا فلا نستطيع بعدها مواساة كفنا بالأخرى فلا أحد يمكنه ضم ظهر كفيه ببعضها، أما الانجليزية فببساطة كانت (بي آز إن بيطر عصاي لتحت يا حيوان).

ننظر وجوههم نرى نشوة تلذّذ ساد بعيونهم و يعتمر قلوبنا حقد ندفنه بالقهر، تعصف بنا أفكار الانتقام و تردعنا بالوقت ذاته تصورات النتائج، فهو الاستاذ صاحب القلم الأحمر، و ما أدراك ما القلم الأحمر، إنه مصيرك مستقبلك انه سوط الحاكم و القاضي و الجلاد، حجته منزلة كلامه مصدّق بلا جدال، و إذا ما اختط بذاك القلم الأحمر أرقاماً على صحيفتك تقرر مصيرك إن كنت من أصحاب اليمين أو الشمال.

أما الثانوية، انتقلت إلى مدرسة أقرب إلى "جوانتنامو" منها إلى مدرسة، لم احتمل البقاء بها لعام آخر فانتقلت، كان الحقد بها بنوع آخر متطور، لبعض عصي الأساتذة أسماء، أطلقها عليها الطلبة لتسهيل سرد الذكريات، لكن كان هناك أستاذ طور اسلوبه الخاص بالعقاب، كان يطلي أسفل نعل حذائه بطلاء الأحذية، و إذا ما أراد عقاب أحد الطلبة اقترب منه و ضربه رافعاً قدمه إلى الخلف كما الحمار تاركاً أثر الطلاء على بنطاله كوصمة عار ترافقه ذاك اليوم فيصبح الموصوم يسهل تمييزه من قبل الأساتذة الآخرين من بين جموع الطلبة، لا أدري ما نوع الطلاء إذ كان من شبه المستحيل إزالته و يستمر التوبيخ طوال اليوم حتى الانتهاء من غسله و زوال آثاره، ناهيك عن ألقاب التحبب التي كان الأساتذة ينادونا بها فما أن يعجب أحدهم بأدائك تنال و بجدارة لقب "حاوية". 

الآن يخرج علينا من يبحث و يحلل و يدرس أسباب العنف و انتشاره، ببساطة أغمض عينيك تعرف السبب دون بحث أو تحليل أو دراسة إن السبب ثقافة العقاب، التي زُرعت بكل مراحل حياتنا بكل يوم بين ثنايا اللحظات، أول ما نفكر به العقاب، يحثنا العقاب و يردعنا العقاب، فأصبحنا نحسب الأمور من خلال العقاب و شدته، نعتد بقدرتنا على العقاب، قوتنا نستمدها من قدرتنا على تحمل العقاب، انتقلنا من مراحل ثقافية متعددة و أهملناها فتطورت، كانت ثقافة الكراهية و الحقد تطورت إلى ثقافة الانتقام و وصلت الآن إلى ثقافة العقاب، لم نعالج أول مظاهرها فاستفحلت و تطورت و تراكمت حتى وصلنا إلى هذه الثقافة، ثقافة العقاب، التي باتت تتحكم بكل تصرفاتنا دون التفكير بمسببات العقاب، فبات الشعار أنا أُعاقِب فأنا موجود، هناك مَن إن تجاوزه أحدهم بمركبته ينتابه شعور أقرب إلى الدعاء أن ينحرف و يتدهور بمركبته معجلاً عقابه و قبل أن يلتمس له عذراً. 

إن أردت حل الأمر عد إلى صفوف المدارس و ابدأ من هناك من أوائل الصفوف، لأن من مضى على تربيته أكثر من ثلاث سنوات على النهج إياه لا يمكنك اصلاحه فقد أُشبع عقاباً، لعل يخرج منا جيل غير غارق بالحقد و الكراهية و الحسد و حب الانتقام متجبر بالعقاب.  

سأبقى أوشوش الأسماك فإما أن تبرز لها أذن تسمعني بها أو أن يضمر لساني فيبكم ثغري.

دمتم بخير.

Monday, 8 April 2013

تاريخ المستقبل


منذ مدة و أنا أدفع بنفسي النأي عن خط ما يجول بخاطري، ضج رأسي بحروف تلاطمت و أكتظت فوق بعضها فما زادت إلا صدري ضيقاً ملأ وجهي اكفهراراً و عبساً، حاولت دفع العبس فكنت أضحك و أضحك حتى شككت بنفسي و جالستها بساعة صفاء فوجدت أنني أضحك لا لفرح أو زهو بل لما أحاطني من شر البلية.

أقرأ أسمع أشاهد، فما أجد حالنا إلا كمن يجدّ السعي متريضاً على ذاك الجهاز ذا الحزام الذي يعمد إليه هواة الرياضة فيمشون أو يركضون بمكانهم و هو يسايرهم معاكساً خطاهم، فبعد الجهد هم في مكانهم منهكون، و أحياناً نكون كمن يقف على ذاك الحزام و هو ما زال يسير فيرمي به خارج المسار متعثراً بدفعه المتواصل، لا أدري هل أخطأنا المسار أم ليس أمامنا إلا هذا المسار مستوهمين؟ و أحياناً كثيرة لا أجد أننا نسير بمكاننا أبداً بل نتقهقر أو ننحدر إلى قعر بلا قرار، فكل يوم نرى ما كنا عليه خير مما نحن الآن عليه.

أهو قدرنا؟ و ما القدر أو الغيب أو المستقبل إلا تاريخ، فكل التاريخ كان قدراً قبل حدوثه، فما لا نعلمه بما سيحدث غداً سيصبح تاريخ معلوم بعد غد، قالوا أن هناك من يصنع التاريخ فما أظن إلا أن الأقدار ساقته و بعروة وجوده بات من التاريخ فما غيّر شيء و ما كان ليغيّر.

كل الأمم لها أبطالها إلا نحن فأبطالنا أموات، أو لأننا ننحدر في ذاك الشق فنرى كل ما فوقنا أفضل من حالنا و أسمى مكاناً فما هم إلا سجناء أقدارهم التي باتت تاريخنا، المصيبة أننا لا ننظر إلا للأعلى لربما متمنين العودة إلى موضع بالهوة أقل انحطاطاً، أو التشبث و لو لوهلة بموضعنا، و لا ننظر إلى أين نهوي، نهوي إلى قعر لا منتهي فإما أن ننتهي أو ننهى.

نتخبط لأننا بحاجة لشيء نتشبث به نتحدث عنه لكن ما من شيء هناك، نحن نعيش بالفراغ كرائد فضاء تاه في غياهب سديم يحيطه الفراغ و لا يتحكم باتجاهاته فأي لمسة تقذفه إلى فراغ آخر، غداً سنشهد من يجوب الشوارع يحمل صور "كيم جونغ أون" و تغرق مواقع التواصل الإجتماعي بقصص عن عظمته و حكمته و إلهامه، هم أنفسهم الذين يحملون صوره و يسردون أساطير عظمته هم أيضا كانوا قد حملوا صور ذاك الآخر و ذاك الثاني و ألّفوا أساطير عن عظمة ذاك الآخر و ذاك الثاني، لا ألومهم فهم في التيه ذاته يتشبثون و لو بغبار أو غثاء أو بمن لا يراهم و لن يراهم.

ينظر الجميع إلى من أقسم كذباً بريبة، لكنني أرى أنه لربما كان إيمانه برحمة ربه و غفرانه أكبر من إيمانه بظلم و جور جلاده، بداية موسم الشتاء الذي ودعناه من أيام بدأت أعمال هدم في بيت خلف منزلي لإزالته و بناء ما لم أكن أعلم مكانه، كان بيتاً كبيراً، و حرص من قام بهدمه على استصلاح ما يمكن استصلاحه من بقاياه، عراه تماماً من الحجارة و النوافذ و حتى قضبان الحديد التي كانت قد استُعملت بتسليح جدرانه، أعلم كم احترفنا التدوير لا لحرصنا على البيئة بل لحالنا المدور فحياتنا بأحداثها و انحداراتها مدورة لكن بألوان و سرابيل جديدة و بنفس الجوهر، و حتى أولادنا نعيد تدويرهم على شاكلتنا فكأنما نستنسخنا، عود على ورشة العمل خلف بيتي و في إحدى الليالي و لعادة النوم بمجافاتي عسست حركة شابتها شبهة سرقة، بعض شباب جالوا بين الأنقاض يحملون مصباح حرصوا على إطفائه أكثر من إشعاله، اختلسوا بعض قضبان حديد استلّوها من المكان ولاذوا بمركبة نقل متهالكة، بت معتبرا الموقف عرضي لا يوجب التنبيه، إلا أنهم أعادوا الكرة بالليلة التالية، جلست أرقبهم و النفس تنازع اللب، أأبلغ عنهم؟ أم أنتظر الصباح و أعلم صاحب الورشة ليحتاط؟ ماذا لو كان من سأشكوه أشكو إليه؟ لا شك أن ما دفعهم إلى ذلك أشد مما يمكن أن أعتقد، فهي مجرد قضبان مهترئة بالية لا يكترث بأمرها كثر منا، و يعود لبي يدفعني عاصفاً بموج عارم من الشعارات و المبادىء، من يسرق يسرق، أنا لست شيطان أخرس، إن تغاضيت الآن قد يأتني الدور لاحقاً، و بعد هذا الصراع طار ما كان قد يمكن أن أستجلب بين أجفاني من وسن و حاطاً مكانه سهاد، حتى اليوم و بعد طول شتاء و بوادر الربيع بأزهاره يدق أبواب البراعم تناجيني النفس بخطئها، و ما زلت لم أحرك ساكناً و الورشة خلف بيتي قاربت الوصول للطابق الثاني من البناء، لاذ أولئك ببعض القضبان و أنجز البناء أدوار و أدوار كلهم سعدوا بما لم يعلموا و تركوني و نفسي يقض مضجعي ما علمت، فخرجت شيطاناً أخرس أنتظر أن يأتني الدور، ثم صالحت نفسي بأن روضتها على غض الطرف رأفةً بحالي.

دمتم بخير.