منذ مدة و أنا أدفع بنفسي النأي عن خط ما يجول بخاطري، ضج رأسي بحروف
تلاطمت و أكتظت فوق بعضها فما زادت إلا صدري ضيقاً ملأ وجهي اكفهراراً و عبساً،
حاولت دفع العبس فكنت أضحك و أضحك حتى شككت بنفسي و جالستها بساعة صفاء فوجدت أنني
أضحك لا لفرح أو زهو بل لما أحاطني من شر البلية.
أقرأ أسمع أشاهد، فما أجد حالنا إلا كمن يجدّ السعي متريضاً على ذاك الجهاز
ذا الحزام الذي يعمد إليه هواة الرياضة فيمشون أو يركضون بمكانهم و هو يسايرهم
معاكساً خطاهم، فبعد الجهد هم في مكانهم منهكون، و أحياناً نكون كمن يقف على ذاك
الحزام و هو ما زال يسير فيرمي به خارج المسار متعثراً بدفعه المتواصل، لا أدري هل
أخطأنا المسار أم ليس أمامنا إلا هذا المسار مستوهمين؟ و أحياناً كثيرة لا أجد
أننا نسير بمكاننا أبداً بل نتقهقر أو ننحدر إلى قعر بلا قرار، فكل يوم نرى ما كنا
عليه خير مما نحن الآن عليه.
أهو قدرنا؟ و ما القدر أو الغيب أو المستقبل إلا تاريخ، فكل التاريخ كان
قدراً قبل حدوثه، فما لا نعلمه بما سيحدث غداً سيصبح تاريخ معلوم بعد غد، قالوا أن
هناك من يصنع التاريخ فما أظن إلا أن الأقدار ساقته و بعروة وجوده بات من التاريخ
فما غيّر شيء و ما كان ليغيّر.
كل الأمم لها أبطالها إلا نحن فأبطالنا أموات، أو لأننا ننحدر في ذاك الشق
فنرى كل ما فوقنا أفضل من حالنا و أسمى مكاناً فما هم إلا سجناء أقدارهم التي باتت
تاريخنا، المصيبة أننا لا ننظر إلا للأعلى لربما متمنين العودة إلى موضع بالهوة
أقل انحطاطاً، أو التشبث و لو لوهلة بموضعنا، و لا ننظر إلى أين نهوي، نهوي إلى
قعر لا منتهي فإما أن ننتهي أو ننهى.
نتخبط لأننا بحاجة لشيء نتشبث به نتحدث عنه لكن ما من شيء هناك، نحن نعيش
بالفراغ كرائد فضاء تاه في غياهب سديم يحيطه الفراغ و لا يتحكم باتجاهاته فأي لمسة
تقذفه إلى فراغ آخر، غداً سنشهد من يجوب الشوارع يحمل صور "كيم جونغ
أون" و تغرق مواقع التواصل الإجتماعي بقصص عن عظمته و حكمته و إلهامه، هم أنفسهم
الذين يحملون صوره و يسردون أساطير عظمته هم أيضا كانوا قد حملوا صور ذاك الآخر و
ذاك الثاني و ألّفوا أساطير عن عظمة ذاك الآخر و ذاك الثاني، لا ألومهم فهم في
التيه ذاته يتشبثون و لو بغبار أو غثاء أو بمن لا يراهم و لن يراهم.
ينظر الجميع إلى من أقسم كذباً بريبة، لكنني أرى أنه لربما كان إيمانه
برحمة ربه و غفرانه أكبر من إيمانه بظلم و جور جلاده، بداية موسم الشتاء الذي
ودعناه من أيام بدأت أعمال هدم في بيت خلف منزلي لإزالته و بناء ما لم أكن أعلم
مكانه، كان بيتاً كبيراً، و حرص من قام بهدمه على استصلاح ما يمكن استصلاحه من
بقاياه، عراه تماماً من الحجارة و النوافذ و حتى قضبان الحديد التي كانت قد استُعملت
بتسليح جدرانه، أعلم كم احترفنا التدوير لا لحرصنا على البيئة بل لحالنا المدور
فحياتنا بأحداثها و انحداراتها مدورة لكن بألوان و سرابيل جديدة و بنفس الجوهر، و
حتى أولادنا نعيد تدويرهم على شاكلتنا فكأنما نستنسخنا، عود على ورشة العمل خلف
بيتي و في إحدى الليالي و لعادة النوم بمجافاتي عسست حركة شابتها شبهة سرقة، بعض
شباب جالوا بين الأنقاض يحملون مصباح حرصوا على إطفائه أكثر من إشعاله، اختلسوا
بعض قضبان حديد استلّوها من المكان ولاذوا بمركبة نقل متهالكة، بت معتبرا الموقف
عرضي لا يوجب التنبيه، إلا أنهم أعادوا الكرة بالليلة التالية، جلست أرقبهم و
النفس تنازع اللب، أأبلغ عنهم؟ أم أنتظر الصباح و أعلم صاحب الورشة ليحتاط؟ ماذا
لو كان من سأشكوه أشكو إليه؟ لا شك أن ما دفعهم إلى ذلك أشد مما يمكن أن أعتقد،
فهي مجرد قضبان مهترئة بالية لا يكترث بأمرها كثر منا، و يعود لبي يدفعني عاصفاً
بموج عارم من الشعارات و المبادىء، من يسرق يسرق، أنا لست شيطان أخرس، إن تغاضيت
الآن قد يأتني الدور لاحقاً، و بعد هذا الصراع طار ما كان قد يمكن أن أستجلب بين
أجفاني من وسن و حاطاً مكانه سهاد، حتى اليوم و بعد طول شتاء و بوادر الربيع
بأزهاره يدق أبواب البراعم تناجيني النفس بخطئها، و ما زلت لم أحرك ساكناً و
الورشة خلف بيتي قاربت الوصول للطابق الثاني من البناء، لاذ أولئك ببعض القضبان و
أنجز البناء أدوار و أدوار كلهم سعدوا بما لم يعلموا و تركوني و نفسي يقض مضجعي ما
علمت، فخرجت شيطاناً أخرس أنتظر أن يأتني الدور، ثم صالحت نفسي بأن روضتها على غض
الطرف رأفةً بحالي.
دمتم بخير.
No comments:
Post a Comment