Sunday 26 December 2010

سخرية الألم


      اعتاد مسكين على زيارتي بين الفينة و الأخرى، يحدثني عن أحواله، رغم أني لا ارغب بالحديث عن علاقتي به إلا و للتوضيح فقط، فقد دأبت على مساعدته بما أستطيع.
      أحمد لطيم ما عرف أبويه، إذ تربى و أختاه في ملجأ الأيتام حتى بلغ سن مغادرة المكان، فسعى أن ترافقه أختاه في الحياة خارجا، و كان كما أراد، و ذهب و استأجر سكن لهم جميعا كان عبارة عن غرفة متهالكة، عمل جاهدا لتجميع بعض قطع الخشب و الصفيح من الجوار ليسد فتحة كانت اعتبرت باب تلك الغرفة التي بالكاد تصلح للعيش الآدمي.
      كان بالملجأ لا يعبأ بمتطلبات العيش البسيطة، من طعام و بعض لباس، أما الآن فهو يحتاج لإيجار و طعام و وقود للطبخ و التدفئة، حار أحمد الذي ما تأهل يوما لأي عمل، فما كان أمامه إلا العمل كبائع على بسطة متواضعة في أي مكان، و بنفس الوقت كان يحصل على أربعين دينار معونة من الشؤون الاجتماعية، بعد أن تمكن بعد عناء من شراء بعض ما يعرضه على بسطته ليبيعه، صدم بمصيبة جديدة كانت بمقدارها مصيبة المصائب له، رسوم ترخيص البسطة، و البالغة لسخرية الألم أربعون دينار كذلك، فهاهو أحمد ينتظر الشهر التالي ليستلم المعونة التي سيعاود دفعها ترخيصا لبسطة الحياة، و انتظر الشهرين دون أي دخل فالشهر الأول اشترى البضاعة و الشهر التالي ليدفع الرسوم، و يعلم الله كيف عاش هو و أختاه تلك الأشهر، و كان كما خطط فاستلم المعونة و دفع الرسم و افتتح أحمد بسطة الحياة، كله أمل و طموح، كيف لا و هو يحلم منذ شهرين بمشروعه الذي ما وجد سبيلا لغيره.
      بعد مدة تعرض أحمد لمشاكل صحية إذ شخصت حالته بمرض بالقلب، و ما كان أمامه إلا أن تعطل عن بسطته التي كان ليؤمنها يوثق ربطها بجنزير من الحديد و قفل بأحد محال الخضار القريبة كلما أقفل عائدا إلى بيته، و لغيابه بسبب المرض جاء أحدهم ليلا و سرق بسطته التي كانت عبارة عن عربة خشبية تسير على ثلاثة عجلات، و فوق علته المسكين ألمت به مصيبة فقدانه لمصدر رزقه الوحيد، وعاد أحمد إلى ما دون الصفر.
      عاود و بإصرار المستميت، كيف لا فالموت جوعا و الضياع مآله دون ذاك، و وفر من معونته لشهر واحد هذه المرة إذ كانت لديه البضاعة و الترخيص إلا انه لملم شتاته ليؤمن ثمن العربة الجديدة، و بدأ أحمد من جديد.
      مرت سنين و سنين و كبر أحمد، في تلك الأثناء كان قد تعرف علي، و أتاني يوما يعلمني برغبته بالزواج، إذ أن إحدى أختيه كانت قد تزوجت و بقي هو و أخته الصغرى، و أعلمني أن هناك فتاة تحدث مع والديها خاطبا فأجابوه قبولا، فباركت له و هنأته، و تزوج أحمد بعد فترة قصيرة من حديثي معه من تلك الفتاة.
      مضت اشهر حتى عاد لزيارتي، هذه المرة كان أحمد يكاد يطير فرحا، فدخل إلى مكتبي مغتبطا و يبكي فرحا، و بصوت عال و ببساطته المعهودة صاح أحمد: باركلي، فباركت له مستفهما عن الأمر، فأجابني أحمد: الله الله يطول عمره يا ربي. استفسرت: مَن و ما الموضوع يا أحمد؟ فأجاب: الملك ..... الله يا ربي ..... أنا بحبه، أعطاني بيت، بيت فيه أكثر من غرفة حتى فيه حمام داخل البيت، و الله يا ربي يطول عمره. و اخرج أحمد مفتاح البيت من جيبه و أوراق ملكيته، و طلب مني صورة للملك ليعلقها على الحائط بالبيت.
      بعد فترة أتاني مغتما متألما مهموما و شعرت بحسرة في ملامحه، حدثني عن الخطب إذ أن أخته المتزوجة تطلب الطلاق، لأمر استحلفني كتمانه فما أستطيع أن أقول إلا انه أمر لا يطاق اشمأزت له نفسي و اقشعر لوصفه الأحداث بدني، و كأن الفرحة تهرب من أحمد، أو أن بينه و بينها عداوة أو أنهما ضدان لا يتفقا.
      مرت فترة حتى عاود زيارتي، و في هذه المرة فرحة خوف تعتري وجه أحمد، و بصوت خجول كمن اقترف الذنب اللذيذ، و بصوت منخفض أعلمني أن زوجته حامل، و علت وجنتاه حمرة خجلة و ارتسمت على فيه ابتسامة منتصر، كان هذه المرة يحدثني و في أنفاسه نضوج غريب، و فيض من رجولة استمدها من إثباتات حسية ملموسة واقعية لا مجال للشك بعدها فها هي زوجته حامل، يعلم الله كم عانى المسكين الهمز و اللمز لتأخره بإتمام هذه المهمة و كم شكك من حوله بقدرته.
      في آخر زيارة، دخل أحمد علي و هو أب، أناظره و هو يصف طفلته، أحاطته فرحة لم استطع لملمتها، و حارت كلماتي لتصويرها، كلما تحدث عن (منى) قفزت من عينيه دمعة فرحة تراقصت على خديه، يحدثني و يتساءل هل سأراها تتكلم؟ أو تقرأ؟ يا الله لو أني أعيش حتى أراها عروس، أكيد إذا أنا مت فأمها ستكون موجودة لأنها اصغر مني سنا. كان و كأنه يعدد كل ما حرم منه و تمناه لابنته، فما كان احد من أبويه حينما تكلم أول كلماته، و ما قرأ لأحد يوما، و تزوج وحيدا. و طغت فرحته على خبر فقدانه عربته مرة أخرى، إذ انشغل عنها و غاب مرة أخرى ليتابع أمر صحي الم بابنته الرضيعة فقد أصابها التهاب السحايا، لكن هذه المرة كان يتحدث و كأن كل ذاك غير مهم لا العربة المسروقة و لا الالتهاب و لا صورة الأشعة المطلوبة للتأكد من خلع الولادة، كان كل ذاك ليس بذي شأن عند أحمد هذه المرة، و كأنه مخمور أو منتش لفرط الغبطة في قلبه.
      خرج من مكتبي، جلست انظر الطريق و الجسر القريب، أناس أثقلت كواهلهم هموم جمة، بعضها بسيط و غيرها معقد و ثقيل، اختلطت علي المعاني، فمنهم من يعاني قلقا مزمنا و آخر يفرحه ابسط البسيط، هل للترف يد في اضمحلال ما يفرحنا إذ أصبحت الأمور البسيطة التي يكد غيرنا لينالها ليست ذات شأن بحياتنا فما عادت تفرحنا؟ هل الحاجة تولد الفرحة و تبسطها فبذلك تكثر أسبابها؟ 


فارس غرايبة

1 comment:

Osama El-Tayel said...

Thanks Abu Saleem for sharing this sad story with us. Being or staying poor is becoming a wide phenomone among Jordanian society which sadly has no other means to protest or solve this probelm but with words--which will never change the status qua that 13.7% of population suffers according to the offical statistics. The real number is--obviously--much higher than that. Anyway, I am happy that you helped this human and may Allah gives you more and more to help others.
I am really happy to read this story and wish to read more of what you post.
Your's
Osama El-Tayel