Saturday, 2 November 2013

قنوط قَنُوت


كان عائداً مما اعتاد عليه من مسير في البرية القريبة، إلا أنه في هذا اليوم قد أطال المسير فتأخر، و لما جن الليل خاف وحوش البرية فلجأ إلى كهف يقيه وقب الظلام و خفاياه، و بعد أن أخذت عيناه تدرك حلوك العتمة رأى بصيص نور في آخر الكهف، سار نحوه و خواطر ترعش الفؤاد تتدافع في الرأس، ما أن اقترب حتى أدرك شخصاً يجلس و كتاب موضعه في حجره، يحيط به كتب و لفائف، شيخ بلغ من العمر عتياً، حالما أدرك ذاك الشخص وجوده نظر إليه، تبسم، أشار إليه ليجلس قربه، اقترب بتوجس و جلس بعد أن اطمأن، نظر بصمت تنقل بنظره بين ذاك الشيخ و كتبه و سراجه الوهاج.

أتائه أنت؟

كلا بل مستتر ريبة الغيهب، لكن ما أنت فاعل هنا؟

كما أنت مستتر، مستتر روع جور، أنا العطار الذي كان يصلح ما أتلفه الدهر حتى أتاه الدهر منتقماً فما استطاع لإتلافه إصلاحاً.

أي جور أيها الشيخ؟

قل لي: أما زلتم حسب الهندام بعضكم بعضاً تصنّفون؟ و عمي عن جواهر النفوس؟
بلى.

أما زلتم لتاريخكم بأنفسكم تكتبون، و بعد ذلك تطالعونه بفخر و تصدقوا ما تكذبون؟
نعم، لكن من عليه أن يكتب تاريخنا سوانا، أنستكين لما يخطه يراع الآخرين؟
بلى، لأنهم يرونكم بعيونهم و أنتم تروا أنفسكم بقلوبكم، فهم يروا العيوب و أنتم بالهوى عيونكم عن العيوب غضيضة.

قل لي: أما زلتم لأغنيائكم بالسرقة تتهمون و فقرائكم الحظ يلعنون، و تنسون أن رزقكم في السماء و إنه لحق كما أنكم تنطقون؟ و حق المسكين و السائل و المحروم تنكرون رغم أنه معلوم؟
بلى، إلا من رحم ربي.

أما زلتم لسدنة معابدكم تقدسون و تبجلون أكثر ممن أنتم بها تعبدون و قد أعلمكم أنها له وحده و أمركم ألا تدعوا معه أحدا؟
آه أيها الشيخ، بلى.

أما زلتم إذا تعثر أحدكم، تتهامزون تتلامزون و بعد ذلك تتضاحكون و يَد عَوْنٍ له لا تمدّون؟
نعم، نعم، صحيح، و قد ارتسمت على فيه ضحكة كتمها بعد جهد.

أما زلتم خَلق الناس تنتقدون دون أن أخلاقهم تختبرون، و لجهلكم لا تدرون بذلك الخلق أم الخالق تنتقدون؟ سبحانك ربي عما يصفون.
للأسف نعم ما زلنا إلا بعض منا.

أما زلتم بالسرّاء تتجبّرون و بالضرّاء تتضرّعون؟
بلى ما زلنا، إلا الذين يتفكرون.

أما زلتم في تعبدكم تتلفتون لتعرفوا من هم حولكم و من إليكم ينظرون؟
أحياناً.

أما زلتم جبابرتكم إذا ما قتلوا على يد غريب أبطالاً تعتبرون، و طغاة إذا ما قتلوا على يد قريب؟
نعم صحيح.

أما زلتم إذا ابتسم أحدهم لكم تظنون به الظنون؟
نعم، إما يبتسم لغاية في نفسه أو أنه مجنون.

أما زلتم تخافون مما تجهلون و لمعرفته لا تسعون، و تبقوا تخافون و تجهلون و أحياناً تندبون؟
أما زلتم لكتب تكدسون و تجمعون، فقط للزينة على الرفوف تضعون و هيهات لها تقرؤون؟
أما زلتم مع من يخالفكم تختلفون، و تصمّون آذانكم و لا تستمعون؟

أيها الشيخ، بزغ نور الصباح و من مدخل الكهف انبلج، ألا تأتي معي و تخرج من عتمتك هذه إلى النور ذاك؟
بني، بعد كل هذا، أتسمي ما أنت ذاهب إليه نور؟ ذرني و كتبي فقد ملأني ذاك النور قنوط فعهدت لحياة القنوت، إذهب أنت عسى أن تكون ممن رحم ربي.

دمتم بخير

Saturday, 15 June 2013

حرب البلالين


في أواخر أيام الدراسة من كل عام و حينما تبدأ ملامح الصيف تطل علينا بجفافها و حرّها، كانت تنتشر بين الطلاب حرب البلالين، يجلب الطلاب بعض بلالين، عادة تكون من البقالة المجاورة للمدرسة، يملؤوها بماء و يرموا بها على بعضهم، كثر يأخذون الأمر برحابة صدر، بعضهم يُبدي امتعاضه، و البعض يلوذ بنفسه نأياً عن البلل أو لعدم حيازته أي من تلك البالونات، أحياناً تصيب احدى البالونات الطائشة ذاك الطالب ذو الهندام الرتيب الذي دائماً ما حوى جيبه ثلاثة أقلام بألوان مختلفة يجيب دائماً عن كل سؤال، دفتره مسطّر شعره مسرح بعناية، و لتعكير الماء رتابة هندامه و صورته التي شقي في بنائها و ترسيخها في أذهان أقرانه، ينتفض ذاهباً إلى المعلم المناوب في الساحة ليشتكي، و لكونه ذاك الطالب المجتهد دائم الطاعة يبادر المعلم بالصراخ على الطلبة المارقين عصابة البالونات المائية، مهدداً مزبداً متوعداً.

يخضع بعض الطلبة بعد استشعارهم جدية ذاك المعلم، بعضهم لنفاذ مخزونهم من ذخيرة البالونات، فيتركوا تلك اللعبة التي صارت مذمومة محظورة مبغوضة، إلا أن فئة منهم تأبى الانصياع لحيازتها لكم من البالونات و مدفوعة باغراءات نخبويتهم و بعضهم لطغيان فطرة التمرد لديهم، فيستمروا برشق البلالين المائية، بعض من رفاقهم الذين انصاعوا أو كلّوا أو رغبوا باستمالة المعلم ينتظمون في صفوف المعارضين لاستمرار هذه اللعبة، ينال أحد المنقلبين رشقة بالون يتلفت بعد أن يفيق من ذهلته، يحدد الجاني فينطلق بكل عزم نحوه جرياً و ما أن يدنو منه يركله برجله بكل عزم على مؤخرته، تحتوي تلك الركلة على كل ما اختزن من غبن المحروم متصنّع الطاعة على مضض فاقد مخزون ذخيرة البلالين، يحار المعلم بعدم جدوى نهجه، يحضر عصاه التي طالما ادخرها لهكذا ظرف، يرفعها ملوحاً باشارة تهديد لكل من تسوّل له نفسه العصيان، لا ينجح، يمعن بتهديداته يمسك أحد أفراد عصابة البلالين و بعشر ضربات من عصاه على يده و بمرأى من جموع الطلبة ينفذ تهديده عله يردع العصاة، إلا أنه لا ينجح، يقترب منه الآذن يعلمه عن حل يراه ينهي التمرد، يشعره المعلم باذنه لكي يتصرف، يذهب الآذن و يغلق الماء عن كل صنابير المدرسة، لا ماء، لا لغسل و لا لشرب لنجفف منابع ذخائر المردة العصاة، تنتهي الفرصة، يعود كل الطلبة لينتظموا في صفوفهم، يشعر المعلم بنشوة نصر منقوص يسجّل الآذن نقطة على المعلم تبقى تنخز جنب المعلم كلما نظر إليه، المدير كان يطل من نافذة مكتبه مبتسماً لا أحد يدري هل هي ابتسامة سخرية أم اعجاب أو أنه تذكر طفولته؟

لم اقتنع يوماً بعفوية تحركات عصابة البلالين المائية، طالما شككت بغايات صاحب البقالة المجاورة للمدرسة يشيع تلك الحركة ليروج لما كسد لديه من بلالين، أحياناً أشك بالآذن لربما يكون من الذكاء ليسجل على المعلم تلك النقطة المذلة سراً، و تبقى تحيرني ابتسامة المدير.

كبرنا و كبروا و بقيت حرب البلالين.

دمتم بخير       

Monday, 13 May 2013

أهو الطير؟




في قرية نائية، قليلة السكان معزولة عن ما يحيطها من بقية العالم لبعدها، كان هناك طير يزورها كل حين، و كلّما مر بأهلها ذاك الطير مات أحد سكانها باليوم التالي دون سبب معلوم أو سابق انذار.

كان ينتاب سكانها كلما شاع خبر مرور ذاك الطير شعور بالرهبة و التّرقب، و تحضّر للمحتوم، يسارع كثر منهم إلى نفض بعض خطاياه عن كاهله، و يميل معظمهم إلى التصالح و حسن المعاملة فيما بينهم و ليوم واحد، حتى بيان الأمر المحتوم و على من منهم وقع الاختيار، و ما أن يحدث المقدّر و ينتشر النبأ حتى يعودوا إلى سابق عهدهم و بلحظات يتجبر المتجبرون و يعصي العاصون و يتكبر المتكبرون.

يخالطهم شعور لوهلة ممزوج بالفرح و الأنانية، شعور بالرّاحة الحقيرة، شعور كل واحد ممن يبقى منهم أنه لم يكن المختار، ذاك الشعور المريح المبني على مأساة شخص آخر و على أنقاض حياة زهقت.

اجتمع وجهاء و أعيان القرية يتباحثون بأمر الطير، يتشاورون بالسبيل لقتله للخلاص من شؤمه، أعدوا الخطط و أحكموا التدابير، و انتخبوا من أشاوسهم ثلة ذوي بأس شديد، عرفوا عنهم الاقدام و القدرة، و أعلموهم بالخطط و التدابير، إلا أن و من بين الجالسين عجوز طاعن بالسن خبير، أسكتهم بقوله سائلاً: أهو الطير صاحب الاختيار أم هو مجرد نذير؟ حار الجمع بجواب السؤال الخطير، و باتوا يعصفهم فكر و سهدوا بين ثنايا الليل الطويل يستجدون جواباً، أهو صاحب الاختيار أم نذير؟ و عليه انشق الأنام إلى عصبتين، عصبة صاحب الاختيار و عصبة النذير، و ما زالوا في صراعهم إلى يومنا هذا في جدل مستفيض، لكن الطير بقي يزورهم و في سمائهم يطير.

دمتم بخير.

Tuesday, 30 April 2013

غرفة الفئران



كنت بالرابعة أو الخامسة من العمر لست أذكر تماماً فالصور تبرق كلمحات بين الضباب في ليلة مبرقة تضيء للحظة و تعاود الغرق في ظلمات الليل البعيد، ذكريات أول يوم لي بالمدرسة في دولة الإمارات، كانت من أحسن المدارس هناك، الراهبات، بجانبي ذاك الطفل يلعب بمركبة صغيرة، دخلت الصف ترتدي ثوباً أزرق داكن، نظرت إليه أمسكت بلعبته هصرتها بين أصابعها الحديدية و أعادتها بقايا فتات، نظرت إليها، تقلب نظري بحيرة بينها و بين ذاك الطفل بجانبي، شيء دخل فمي عبث به سرق تلك الأسماء التي علّمها ربي لجدي جميعاً.

في الباحة، و لأن الأطفال أكثر الكائنات اجتماعية تكونت الصداقات بلحظات، فالبراءة تلك لم تلوثها بعد مظاهر عنجهية ترف الأنا، كان بعضهم يتحدث عن حجرة الفئران، مررنا بجانب باب من الحديد أصم يجمع خلفه ظلمة تزيد اسطورة الفئران رعباً، صور الفئران بكل أشكالها تبدعها التخيلات بلحظات، نتدافع مبتعدين، يغمرني حزن على صورة عديمي الحظ الذين زُج بهم و أدخلوا غرفة الفئران، سؤال وحيد يطرق كل علامات الاستفهام، أولئك الذين أدخلوا غرفة الفئران أليس لهم أمهات، يهرعن لنجدتهم و تخليصهم من عدوان الفئران؟

بعد الفرصة عدنا إلى الصف، بعد لحظات عادت تلك التي ترتدي الثوب الأزرق الداكن ممسكة بيدها ولد يكبرنا سناً مطأطأ الرأس صاحت لا أذكر الكلمات لكن أذكر أنها طلبت منا أن نصفق له بأقدامنا، صفقنا جميعاً بحماس ليس لعلمنا بجرمه أو لكرهنا له بل ارضاءً لصاحبة الثوب الأزرق الداكن.

عدت إلى البيت، جلست أحدث نفسي، ليست هذه المدرسة التي حدثاني عنها والدي، أين الألعاب و النزهات؟ أين السعادة و الفرحة التي قال أبي أنها تملأ الباحات؟ و حتى لباسي كرهته مريول كالبنات، سردت لوالدي ما عرفت من أهوال ذاك اليوم، و الفئران و لعبة صاحبي التي باتت فتات، و ذات الثوب الأزرق الداكن، و بالنهاية قراري بإصرار أن لا عودة لي إلى ذاك المكان، فكان ذاك يومي الأول و الأخير.

بعد بضعة أعوام عدنا إلى الأردن، كنت بالصف الأول، دخلت مدرسة بقيت بها حتى نهاية الاعدادية، ذكرياتي بها كثيرة، من استاذ الاجتماعيات الذي كان يرفع الطالب من "سالفيه" بالهواء ثم هاوياً به نحو الأرض، أو استاذ الرياضيات الذي استعاض عن صفع الطلاب بعد أن ادخله ذاك الصفع بمشاكل كبيرة استعاض عنه بالبصق، إلى استاذ الرياضيات الآخر الذي كان تعليم جدول الضرب جدولاً للضرب فعلاً، مروراً بأستاذ اللغة العربية الذي لم يشف غليله الضرب بالعصى بالطريقة التقليدية فابتكر الضرب على ظهر الكف فكانت عصاه تهوي على مفاصل أصابعنا فلا نستطيع بعدها مواساة كفنا بالأخرى فلا أحد يمكنه ضم ظهر كفيه ببعضها، أما الانجليزية فببساطة كانت (بي آز إن بيطر عصاي لتحت يا حيوان).

ننظر وجوههم نرى نشوة تلذّذ ساد بعيونهم و يعتمر قلوبنا حقد ندفنه بالقهر، تعصف بنا أفكار الانتقام و تردعنا بالوقت ذاته تصورات النتائج، فهو الاستاذ صاحب القلم الأحمر، و ما أدراك ما القلم الأحمر، إنه مصيرك مستقبلك انه سوط الحاكم و القاضي و الجلاد، حجته منزلة كلامه مصدّق بلا جدال، و إذا ما اختط بذاك القلم الأحمر أرقاماً على صحيفتك تقرر مصيرك إن كنت من أصحاب اليمين أو الشمال.

أما الثانوية، انتقلت إلى مدرسة أقرب إلى "جوانتنامو" منها إلى مدرسة، لم احتمل البقاء بها لعام آخر فانتقلت، كان الحقد بها بنوع آخر متطور، لبعض عصي الأساتذة أسماء، أطلقها عليها الطلبة لتسهيل سرد الذكريات، لكن كان هناك أستاذ طور اسلوبه الخاص بالعقاب، كان يطلي أسفل نعل حذائه بطلاء الأحذية، و إذا ما أراد عقاب أحد الطلبة اقترب منه و ضربه رافعاً قدمه إلى الخلف كما الحمار تاركاً أثر الطلاء على بنطاله كوصمة عار ترافقه ذاك اليوم فيصبح الموصوم يسهل تمييزه من قبل الأساتذة الآخرين من بين جموع الطلبة، لا أدري ما نوع الطلاء إذ كان من شبه المستحيل إزالته و يستمر التوبيخ طوال اليوم حتى الانتهاء من غسله و زوال آثاره، ناهيك عن ألقاب التحبب التي كان الأساتذة ينادونا بها فما أن يعجب أحدهم بأدائك تنال و بجدارة لقب "حاوية". 

الآن يخرج علينا من يبحث و يحلل و يدرس أسباب العنف و انتشاره، ببساطة أغمض عينيك تعرف السبب دون بحث أو تحليل أو دراسة إن السبب ثقافة العقاب، التي زُرعت بكل مراحل حياتنا بكل يوم بين ثنايا اللحظات، أول ما نفكر به العقاب، يحثنا العقاب و يردعنا العقاب، فأصبحنا نحسب الأمور من خلال العقاب و شدته، نعتد بقدرتنا على العقاب، قوتنا نستمدها من قدرتنا على تحمل العقاب، انتقلنا من مراحل ثقافية متعددة و أهملناها فتطورت، كانت ثقافة الكراهية و الحقد تطورت إلى ثقافة الانتقام و وصلت الآن إلى ثقافة العقاب، لم نعالج أول مظاهرها فاستفحلت و تطورت و تراكمت حتى وصلنا إلى هذه الثقافة، ثقافة العقاب، التي باتت تتحكم بكل تصرفاتنا دون التفكير بمسببات العقاب، فبات الشعار أنا أُعاقِب فأنا موجود، هناك مَن إن تجاوزه أحدهم بمركبته ينتابه شعور أقرب إلى الدعاء أن ينحرف و يتدهور بمركبته معجلاً عقابه و قبل أن يلتمس له عذراً. 

إن أردت حل الأمر عد إلى صفوف المدارس و ابدأ من هناك من أوائل الصفوف، لأن من مضى على تربيته أكثر من ثلاث سنوات على النهج إياه لا يمكنك اصلاحه فقد أُشبع عقاباً، لعل يخرج منا جيل غير غارق بالحقد و الكراهية و الحسد و حب الانتقام متجبر بالعقاب.  

سأبقى أوشوش الأسماك فإما أن تبرز لها أذن تسمعني بها أو أن يضمر لساني فيبكم ثغري.

دمتم بخير.

Monday, 8 April 2013

تاريخ المستقبل


منذ مدة و أنا أدفع بنفسي النأي عن خط ما يجول بخاطري، ضج رأسي بحروف تلاطمت و أكتظت فوق بعضها فما زادت إلا صدري ضيقاً ملأ وجهي اكفهراراً و عبساً، حاولت دفع العبس فكنت أضحك و أضحك حتى شككت بنفسي و جالستها بساعة صفاء فوجدت أنني أضحك لا لفرح أو زهو بل لما أحاطني من شر البلية.

أقرأ أسمع أشاهد، فما أجد حالنا إلا كمن يجدّ السعي متريضاً على ذاك الجهاز ذا الحزام الذي يعمد إليه هواة الرياضة فيمشون أو يركضون بمكانهم و هو يسايرهم معاكساً خطاهم، فبعد الجهد هم في مكانهم منهكون، و أحياناً نكون كمن يقف على ذاك الحزام و هو ما زال يسير فيرمي به خارج المسار متعثراً بدفعه المتواصل، لا أدري هل أخطأنا المسار أم ليس أمامنا إلا هذا المسار مستوهمين؟ و أحياناً كثيرة لا أجد أننا نسير بمكاننا أبداً بل نتقهقر أو ننحدر إلى قعر بلا قرار، فكل يوم نرى ما كنا عليه خير مما نحن الآن عليه.

أهو قدرنا؟ و ما القدر أو الغيب أو المستقبل إلا تاريخ، فكل التاريخ كان قدراً قبل حدوثه، فما لا نعلمه بما سيحدث غداً سيصبح تاريخ معلوم بعد غد، قالوا أن هناك من يصنع التاريخ فما أظن إلا أن الأقدار ساقته و بعروة وجوده بات من التاريخ فما غيّر شيء و ما كان ليغيّر.

كل الأمم لها أبطالها إلا نحن فأبطالنا أموات، أو لأننا ننحدر في ذاك الشق فنرى كل ما فوقنا أفضل من حالنا و أسمى مكاناً فما هم إلا سجناء أقدارهم التي باتت تاريخنا، المصيبة أننا لا ننظر إلا للأعلى لربما متمنين العودة إلى موضع بالهوة أقل انحطاطاً، أو التشبث و لو لوهلة بموضعنا، و لا ننظر إلى أين نهوي، نهوي إلى قعر لا منتهي فإما أن ننتهي أو ننهى.

نتخبط لأننا بحاجة لشيء نتشبث به نتحدث عنه لكن ما من شيء هناك، نحن نعيش بالفراغ كرائد فضاء تاه في غياهب سديم يحيطه الفراغ و لا يتحكم باتجاهاته فأي لمسة تقذفه إلى فراغ آخر، غداً سنشهد من يجوب الشوارع يحمل صور "كيم جونغ أون" و تغرق مواقع التواصل الإجتماعي بقصص عن عظمته و حكمته و إلهامه، هم أنفسهم الذين يحملون صوره و يسردون أساطير عظمته هم أيضا كانوا قد حملوا صور ذاك الآخر و ذاك الثاني و ألّفوا أساطير عن عظمة ذاك الآخر و ذاك الثاني، لا ألومهم فهم في التيه ذاته يتشبثون و لو بغبار أو غثاء أو بمن لا يراهم و لن يراهم.

ينظر الجميع إلى من أقسم كذباً بريبة، لكنني أرى أنه لربما كان إيمانه برحمة ربه و غفرانه أكبر من إيمانه بظلم و جور جلاده، بداية موسم الشتاء الذي ودعناه من أيام بدأت أعمال هدم في بيت خلف منزلي لإزالته و بناء ما لم أكن أعلم مكانه، كان بيتاً كبيراً، و حرص من قام بهدمه على استصلاح ما يمكن استصلاحه من بقاياه، عراه تماماً من الحجارة و النوافذ و حتى قضبان الحديد التي كانت قد استُعملت بتسليح جدرانه، أعلم كم احترفنا التدوير لا لحرصنا على البيئة بل لحالنا المدور فحياتنا بأحداثها و انحداراتها مدورة لكن بألوان و سرابيل جديدة و بنفس الجوهر، و حتى أولادنا نعيد تدويرهم على شاكلتنا فكأنما نستنسخنا، عود على ورشة العمل خلف بيتي و في إحدى الليالي و لعادة النوم بمجافاتي عسست حركة شابتها شبهة سرقة، بعض شباب جالوا بين الأنقاض يحملون مصباح حرصوا على إطفائه أكثر من إشعاله، اختلسوا بعض قضبان حديد استلّوها من المكان ولاذوا بمركبة نقل متهالكة، بت معتبرا الموقف عرضي لا يوجب التنبيه، إلا أنهم أعادوا الكرة بالليلة التالية، جلست أرقبهم و النفس تنازع اللب، أأبلغ عنهم؟ أم أنتظر الصباح و أعلم صاحب الورشة ليحتاط؟ ماذا لو كان من سأشكوه أشكو إليه؟ لا شك أن ما دفعهم إلى ذلك أشد مما يمكن أن أعتقد، فهي مجرد قضبان مهترئة بالية لا يكترث بأمرها كثر منا، و يعود لبي يدفعني عاصفاً بموج عارم من الشعارات و المبادىء، من يسرق يسرق، أنا لست شيطان أخرس، إن تغاضيت الآن قد يأتني الدور لاحقاً، و بعد هذا الصراع طار ما كان قد يمكن أن أستجلب بين أجفاني من وسن و حاطاً مكانه سهاد، حتى اليوم و بعد طول شتاء و بوادر الربيع بأزهاره يدق أبواب البراعم تناجيني النفس بخطئها، و ما زلت لم أحرك ساكناً و الورشة خلف بيتي قاربت الوصول للطابق الثاني من البناء، لاذ أولئك ببعض القضبان و أنجز البناء أدوار و أدوار كلهم سعدوا بما لم يعلموا و تركوني و نفسي يقض مضجعي ما علمت، فخرجت شيطاناً أخرس أنتظر أن يأتني الدور، ثم صالحت نفسي بأن روضتها على غض الطرف رأفةً بحالي.

دمتم بخير.

Tuesday, 5 March 2013

أصنام الشطرنج



لقد رأت الشخصيات الدينية اليهودية أن خلاص الشعب و وحدته يقومان في تنظيم سلوكه تنظيماً صارماً. بل حاول هؤلاء أن يجعلوا ضوابط السلوك أكثر صرامة، و معايير الوصايا أكثر ضيقاً. و وضعوا لتحقيق خطتهم مزيداً من لوائح الوصايا و الارشادات التي يجب على كل يهودي أن يتقيد بها بدقة. و من يخالف فإن محكمة السيندريون بانتظاره لتنزل به أقصى أنواع العقوبات التي قد لا تخطر له على بال. و كان قد بدأ وضع مثل هذه الإضافات إلى شرائع موسى منذ زمن الأسر البابلي. فقد حمل الكهنة اليهود نص الكتاب المقدس معهم و حافظوا عليه. و أعادوا هناك نسخ كثير من النصوص و ملؤوا الأماكن المفقودة منها بما حفظته ذاكرتهم. و قام بهذا العمل مع النبي عزرا، الكتبيون. و جاءت نتائج ذلك العمل مذهلة: لقد صاغ الكتبيون إضافة إلى شرائع موسى 613 وصية و فرضاً. 248 منها كانت أوامر واجبة، و 365 منها محرمات. و بهذا تكون الشخصيات الدينية اليهودية قد انقطعت تماماً عن الحياة الواقعية، و سعت لحشر حياة اليهود في أطر عبثية لا معنى لها، خلافاً لمنطق العقل و مغزى شرائع موسى، الذي علّم:"أحبب قريبك كما تحب نفسك". و هناك حيث تفرض المحرمات ينبغي أن تتحدد العقوبات كذلك. و يجب أن تتقدم العقاب الإدانة، و تتقدم هذه الأخيرة الوشاية. فقد اعتمد كل شيء على الوشايات، على الإبلاغ. لقد كان الناس يُرجمون بالحجارة إذا ما انتهكوا عن غير قصد هذا المعيار أو ذلك، أو هذا الفرض أو ذاك. و كانت عين الفريسيين – الكتبيين التي لا تسهو ترصد كل صغيرة و كبيرة. فذلك العمل الذي ضيق على حياة الناس حتى باتت لا تطاق، كان يتدخل في تفاصيل العيش اليومي، و استمرت الحال هكذا عدة قرون كان الفريسيون الكتبة خلالها يحصون على الناس أنفاسهم.

وصل الفريسيون حد العبث في ابتكار مزيد من المحرمات الجديدة التي زعموا أنها تنبثق من شريعة موسى. و يكفي أن نسوق هنا بعض العينات من تلك التشريعات. فمن الاضافات التي أضافوها إلى الشريعة: تحريم احتذاء الأحذية ذات المسامير يوم السبت، و حجتهم أن المسامير تشكل ثقلاً. أما الأحذية التي ليس فيها مسامير فقد سمح باحتذائها. كما قضوا بأنه يمكن أن يسير الشخص بفردتي حذاء، و لا يجوز له أن يسير بفردة واحدة. و إذا ما حمل شخص يوم السبت رغيف خبز فلا ضير عليه، أما إذا حمل الرغيف شخصان فإن في ذلك إثماً. و كان ثمة كثرة كثيرة من مثل هذه المحرمات التي لم تكن مجرد توصيات، إنما فرائض واقعية قد يدفع اليهودي حياته ثمن الاستهتار بها.

لا أدري و لمجرد إعادة قراءة النص مع تجريده من الأزمنة و الأسماء لم أشعر أنني أقرأ نصاً تاريخياً أبداً !!

دمتم بخير.

Tuesday, 19 February 2013

رحلة كتاب من بيروت إلى عمان



بعد طول انتظار، و تواصل بعد تواصل مع جملون متجر الكتب العربي، بعد الشكر وصلني طلبي، كتاب أردت أن أقرأه، أن أقتنيه، أن أوسع معرفتي بما خُط فيه، لا أعرف شيء عما ينتظرني في ذاك الكتاب إذ لم أقرأه بعد، فقد وصلني اليوم، ليس هنا الموضوع، الموضوع في قصة رحلة الكتاب التي ناهزت بأحداثها ما قد يسطره روائي فذ في ملحمة أو سيرة كما سير الأوّلين كأمثال الهلالي.

كنت قد طلبت الكتاب من الموقع يوم 25 من الشهر الأخير في العام المُنصرم، و بعد أيام قصار أعلموني بعدم توفّر الكتاب لديهم في جملون لكن بامكانهم طلبه لي من بيروت، فكان ردي بالقبول و على ذاك طلبوه من بيروت، و مضت الأيام تزحف زحفاً لطولها، ما عدت راغباً بالكتاب قدر رغبتي بمعرفة سيرة رحلته الملحميّة، من بيروت إلى عمان، و بعد معاودة التواصل مع الموقع أوضح لي من كان هناك أن الكتاب وصل و بانتظار خروجه من الرّقابة، دُهشت إذ شعرت أن ما طلبت كان محشواً بأفكار كالتي يزخر بها كل مكان، أفكار تضلل الخلق بنورها، تفسد النشء أكثر من كل الفضائيات، تبث سمومها التي تضاهي السجائر و غير السجائر من دخان، كتاب مندس عميل، تم ضبطه و مجموعة أخرى من رفاقه، رفاق السوء، قبض عليهم بالجرم المشهود، و جار التحقيق مع تلك العصابة المارقة المتسللة عبر الحدود، و أودعوا جميعاً قيد التدقيق و التمحيص بما يسمى الرّقابة.

بت ليلتي تلك أفكر، هل نحن نعيش في زمنين؟ زمن أتصفح كتب الدنيا بما حوت على حاسوبي، و زمن المركبة الحمراء؟ و قصة المركبة الحمراء، و التي وعدت من يتابعني، أرجو أن لا تظنوا أن من يتابعني كثر فهم حفنة ممن أحب إذ أنني لا أكتب عما راج سوقه من نزوات الليالي الحمراء و انحراف السّيَر باستمراء، أعود بكم إلى قصة المركبة الحمراء، ففي يوم رطب استزلقت بعض أمطار الطرقات، كان أرعن يقود مركبته الحمراء بتهوّر دون احتياط للهفوات، انقلبت به تلك المركبة و هوت بأحد المنحدرات، وصلت إليه النّجدة بعد تجمّع غفير من هواة الاستطلاع، أبلغ الرّقيب عن الحادث و بعد محاولة اسعاف ذاك الشاب كان قد فارق الحياة، عمّ الحزن المكان و لتكرار ما شابه ذاك الحادث، طالب كُثر بالبحث علّهم يتفادون مثله في ما يأتي من الأيام، شُكّلت لجنة، و انبثق عن اللجنة فريق، و عن الفريق توصيات بجلب خبرات من بلاد كثرت فيها الامطار و الانزلاقات، طُرح عطاء و مناقصة و استُدرجت عروض من مراكز ابحاث مصائب الطرقات، و بعد البحث و التمحيص و القياس و التشخيص، قدّمت مراكز الأبحاث خلاصة دراساتها المستفيضة، و بعد رفع الدراسة إلى الفريق، لخّص الفريق الدراسة و رفع ملخّصه عن التّلخيص إلى اللجنة، تباحثت اللجنة بعد اجتماع تلاه اجتماع و قرروا أن لا بد من ورشة عمل للّجنة في منتجع لتلوذ به عما قد يعكر الأذهان إذ أن القرار ذو شأن، خرجت تلك اللجنة بزبدة ملخّصة في سطور إلى صاحب القرار، و بعد أيام بعد أن نسي كُثر أمر الحادث و ما كان، خرج القرار بمنع تجوال و استيراد المركبات الحمراء.

ما عدت أعرف ما أكتب أو أقول، لكن باختصار، يا نزار إن كنت قد تنفست تحت الماء فنحن لا نتنفس حتى فوق الماء، و يا أحمد مطر إن كنت وجدت صديقك حسن انظر حوله هل وجدتنا هناك معه؟

دمتم بخير.


Thursday, 31 January 2013

كشة


أيام شبابنا حينما كنا نناهز المراهقة، كنا نسري كل يوم إلى مدارسنا باكراً، كل فترة و أخرى كان هناك خصلة من الشعر تتمرد و خصوصاً تلك التي في أوسط الرأس و في أعلى نقطة به، تبقى تلك الخصلة واقفة منتصبة لا تطيع لا مشطاً و لا لصقاً و لا بصقاً، تضيع لحظات الصّباح الثمينة في محاولة تطويع تلك الخصلة المارقة، أمام المرآة نحاول و نحاول خصوصاً أن ما يسمى "جل" لم يكن متاحاً، حتى أن الأمر كان يصل بنا إلى محادثة تلك الخصلة و مفاوضتها حتى تعود عن تمردها و تنتظم كما ينتظم الملايين من أقرانها من الشعر، علماً أن لا شك في أن من يحاور خصلة شعر مجنون، إلا أن كل تلك المحاولات كانت تبوء بالفشل، فنعمد إلى بعض ماء في الحمام و كون أيام الدراسة دائماً تكون في الشتاء فيمكننا جميعاً تخيل التضحية التي نقدمها حينما نبلل شعرنا بذاك الماء البارد صباحاً، إلا و أنه ما أن تجف تلك الخصلة حتى تعاود تمردها انتصاباً، يدركنا الوقت، تبدأ الصيحات من هنا و هناك بتعجيلنا، نرضخ و نخرج و نحاول بالأثناء الضغط بيدنا على تلك الخصلة، في مسيرنا نبحث عن أي مكان يعكس صورتنا علّنا نتفقد أحوال خصلة الشعر، واجهات المحال، زجاج المركبات، و في كل مرة لا نرى سوى تلك الخصلة، نعاود الضغط عليها، نصل المدرسة، نحاول تناسي تلك الخصلة، إلا أن الأمر لا يكون بتلك السهولة فكل من نحادثه من الطلاب أو المعلمين و كأنه لا ينظر إلا إلى تلك الخصلة و فقط تلك الخصلة، نعاود وضع يدنا عليها، في الحصة لا نستمع إلى أي شيء منها لأن تفكيرنا مشغول بسبل حل معضلة الخصلة، إرضائها معرفة الأسباب الكامنة وراء انتصابها، و بعد حصص متتالية من العصف الذهني و استنزاف كل الطاقات الفكرية في التوصل لمعرفة الحلول و الأسباب نتوصل إلى ضرورة قص تلك الخصلة الخارجة عن الجماعة، لكن أثر القص سيظهر كحفرة في أعلى الرأس و ستبدو كمن أصاب رأسه جرب أو ثعلبة، و لخوف العدوى سينفر من حولنا الخلّان و الأصحاب، يالهذه الخصلة اللعينة قلبت علينا حالنا، أضاعت علينا وقتاً ثميناً، أرهقتنا بصمتها باصرارها و عنادها، أنذهب إلى الحلاق ليقص لنا كل شعرنا؟ و نضحّي به لأجل هذه الخصلة؟ و نصبح مصدر تندر و تهكم الصديق قبل العدو؟ و في خضم ذاك الزخم من الأفكار البسيطة منها حتى الشيطانية، و تقليب الحلول السلمية حتى التعسفية حتى درجة العقوبة الجماعية لجماهير الشعر، ننام و في اليوم التالي نناظر صورتنا في المرآة صباحاً، لا نرى أي أثر لتمرد تلك الخصلة، تصبح مطواعة منخرطة في صفوف جموع خصل الشعر، منسابة كبقية أقرانها، دقائق و ننسى أمرها الذي كان بالأمس و حتى ننسى الشعر كله.

لا أدري هل هكذا هم يفكرون بنا، كما لا أدري إن كان الأسد يعلم أنه ملك الغابة أم أن البشر فقط يعتبروه كذلك.

Saturday, 26 January 2013

إرث


أغتم كلما طالعتني أنباء محيطنا، و يلفني البؤس مما آل إليه حالنا، دماء و قتل هنا و هناك، و كأن شياطين الانس و الجن انهالت علينا من كل حدب و صوب، أو أننا بتنا كمن سقط في برميل يدور و يدور باحثاً عن الزّاوية، أو كمن يجلس بالظلام و بيده عود ثقاب و شمعة و يتغنّى بعشق الليل لمكابرته عن الاعتراف بعدم معرفته كيف يشعل الشّمعة.   

أقرأ فيلفت انتباهي مقولة "سلطان ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم" لن أخوض بالمقولة، لا بمطابقتها للأزمان و الأحداث و لا بصحة المقولة و مصدرها و مناسبتها و ظروف قائلها، لكن لم استطع منع نفسي من الخوض بما بين حروفها، و زخم المقولات من هنا و هناك و كأنها مُنزلة لا جدال و لا نقاش بها، و بين ثنايا هذه المقولة يستميلني الهوى لتفسير ما انطوى بها، و كثير مثلها، و كأنما كُتب علينا أن نحيى إما بكنف سلطان ظلوم أو غشوم أو ظلوم غشوم و إلا سقطنا في غياهب فتنة تدوم و تدوم، و لا خيار لنا إلا هذه البدائل، يحزنني قرب ذاك من الواقع لكن إن سارت الأحداث باتجاه يواكب المقولة هل يُعد ذاك اثبات صحتها؟ أم أنها لا تتجاوز باب إن صدفوا؟ أم أن من يسعون بحثاً في بطون الكتب لاستخراج ما فصح من عبارات لتوليفها كي تصبح بمقام العبر يستبقون الأعذار؟ كما استبق يعقوب اخوة يوسف بأن مهّد لهم العذر قبل اقتراف الجرم "قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ"

تزخر ثقافتنا بالمقولات هنا و هناك، و المصيبة أن هذه المقولات لا تظهر إلا بعد و قوع الواقعة، فكأننا لا نستفيق إلا بعد وخز الألم فنبدأ بحوثنا غوصاً في مآثر الأزمان، لا أدري لِمَ كُتب علينا أن نعود إلى الماضي لنحاول فهم الحاضر و لم نتجرأ يوماً أن نستقرأ المستقبل و لو القريب منه، دائماً هناك عبارات جاهزة لكل مناسبة نستثني و نقصي منها ما نشاء و نستحضر ما يوائم المراد، و كأننا نعيش خارج حدود المنطق و باتت معارفنا كبندول الساعة يذهب من هنا إلى هناك ثم ما يلبث أن يعود مرة أخرى من هناك إلى هنا، و نخاف إذا ما تجاوزناه أن يفنى الزمن. 

ما زلنا نربط كل مصباح بجني، و كل خرابة بعفريت، لا يمكن أن أطلب أي شيء من جني اتخذ من مصباح بيتاً له، أو أصغي السمع لمحدّثة ودع أو ضاربة رمل و أنا أرى حالها.

دمتم بخير.  

Friday, 11 January 2013

جوز و زوج


يغمرني الحزن حينما أسمع حديث أحدهم بالعربية و هو يلعق مخارج حروفها، فحروف العربية واضحة جليّة لا لُبس فيها.

هناك فرق شاسع بين القاف و الألف، فأصيص ليست بالأصل قصيص و التي بمعنى المقصوص و ليست كذلك قسيس بمعنى الراهب، و لا أسيس فهي بعيدة كل البعد عن السياسة لأن تلك تكون يسوس، و التي إذا ما شددناها أصبحت يسوّس بمعنى وقع به السوس و السوس هنا ليس فرخ الطير بل حشرة تنخر الخشب و بعض الأحيان العقول، هي ببساطة وعاء فخاري يزرع به.

و الظاء ليست زاي و لا ضاد، فضل ليست ظل، ضل تاه كما تتوه لغتنا الآن و الظل هي العتمة إذا ما غشيت مكان، أو أخت من أخوات كان بمعنى بقي أو بات، و بالتأكيد ليست زل لأن زل أخطأ، أبعد الله عنكم الذل، و لا أدري ماذا سنقول عن ظبي؟ أستغفر الله العظيم، انتبهوا العزيم هو العدو الشديد.

أما التاء و الطاء فحدّث و لا حرج لأن في حدّس حرج لأنه من الظن و لن أضن عليكم بشيء لأنني لا أحب البُخل، صدقوني مهما قلبت الطاء تاء لن تزيد وسامة أو رشاقة و لن ينقص وزنك، فإن طبت بفعل طبيب من علة ليس بالضرورة أن تكون قد تبت لأن أمر توبتك بينك و بين ربك، أما مرضك فقد يكون معد. و شتان بين طبر و تبر و لو صنعت من التبر طبر لانحنى و لان و ما أسعفك بشيء إذا ما أردت طعن، و طعن هذه ليست تعن فتعنّ من عنّ بمعنى خطر، أي خطر بفكري، و خطر هذه ليست ختر فهي بمعنى ورد و الختر هو الخدر رغم أن في الخدر خطر.

و أعوذ بالله من الذال التي تصبح زاي و أحياناً دال، لا شك كلنا في عوز لله، و نرجوا العودة إليه، لكن لا أعدكم أن يكون في هذا الهذي هدي، فأرجو منكم العذر على ما بدر مني من عدر.

أما من يقلب الكلمات قاطبة فمن كلامه استنبطت العنوان، فالجوز هو نوع من النباتات خشبه جميل و ثمره لذيذ يشبه دماغ الإنسان، ذاك الإنسان الذي يمكن أن يكون زوج أو هو زوج أي قرين أو بعل، لا أدري سبب الخلط لربما كون أمر الزواج أو عدمه يرتبط كثيراً بالدماغ أو عدمه.

لن أطيل عليكم لاشك بجلاء مقصدي إذ ليس للسرد نهاية، أخيراً إن بحر اللغة يكاد يكون الوحيد الذي داخله مولود و خارجه مفقود.

دمتم بخير.

Friday, 4 January 2013

بترا



بعد اتهام مغرض من ولدي بأنني كالمعتكف في صومعة، و بتآمر من بقيّة عصابة أسرتي، و خروجاً من عزلتي التي باتت تقوقع انطوائيتي، نزلت عند رغباتهم بعد إلحاح و نوينا زيارة بترا.
اتصلت بأحد المكاتب السياحية سبق و تعاملت معه لكن للسياحة خارجاً، سألت عن إن كانوا ينظّمون رحلات داخلية، فسألتني الموظفة عن جنسيتي، انتشيت إذ توقعت أن هناك برامج بأسعار خاصة للمواطنين كوني عرفت أن تذاكر دخول بترا للأردنيين مخفضة حتى أنها زهيدة، إلا أنني صُدمت عند سماعها تقول أن مكتبهم لا يأخذ سياحاً أردنيين! حتى أنت يا بروتس؟ ألا يكفينا حجم المهانة التي نمسحها بذقوننا أو تُمسح بها ذقوننا في طوابير السفارات، و خلع الأحذية في المطارات؟ و التفتيشات التي كانت دائماً عشوائية دون تمييز لا للون شعر أو بشرة أو حركات أيدي (يميزوننا بالخارج بكثرة استعمالنا لأيدينا أثناء الحديث)، جميل أن لا نستورد كل شيء فها هي الإهانات و المهانات باتت تنتج محلياً و بجودة لا تقل عن المستوردة منها. أثار جوابها حفيظتي، و بالتأكيد ما حرت باختيار ما يوضّح بجلاء امتعاضي و استحقاري لهم كمكتب، ردّدت الفتاة عبارات الاعتذار و أعربت عن أسفها فأسكتّها معرباً بالمقابل عن شديد أسفي لكل تعاملاتي السّابقة مع هذا المكتب صاحب السمعة التي كانت و أشدد على كانت جيّدة، و على ذلك كان القرار بالاعتماد على الموارد المحلية و القدرات الذاتية و ننزل وحدنا دون الاعتماد لا على معونات خارجية و لا مساعدات و لا تعاون دولي.  
بترا و لا أدري لِمَ بتنا نسميها البتراء، فهي سمّيت بترا نسبة للصخر، ربما أردنا تعريبها فبترناها كجزء من عمليات بتر العربية قاطبة، أليس حرياً أن نسميها نبطيا كون الاسم نبطية محجوز للبنان، لكن فلنفلسف الأمور و نسيّسها و نعيش سويّة حلمنا الوحدوي العربي، فنقول: ندعوا الأشقاء في لبنان إلى تبادل الأسماء فتصبح نبطيتهم بتراء وبترانا نبطية.
خرجنا، فما شعرنا إلّا و نحن على تقاطع الكرك عند القطرانة، لا لعدم انتباه أو لاستمتاع شتّتْ به أذهاننا إنما لكون كل الشّواخص كانت مغطاة بملصقات مرشحي انتخابات مجلس النواب الأفاضل، (الأفاضل: إضافة لدرء المخاطر)، و تذكّرت برنامجاً تلفزيونياً مفيداً مملاً جداً (جداً: لكم الخيار بربطها بالفائدة أو بالملل)، اسمه المناهل، فشاخصة كُتب عليها (السر انتخبوا مر مرشّحكم بة) فكنّا نحزر المستور وراء الملصقات، ليس المقصود المستور سياسياً، كلا كون أكبر أبنائي عمره تسع سنوات و مخزونه من البراءة لم تلوثه السياسة بعد، فكنّا نكتشف أصل الشاخصة (السرعة مراقبة) نعم، نعم السرعة مراقبة. و تذكّرت صورة لأحد المرشّحين و هو يقود جراراً زراعياً، فأقول لمن استهجنوا الصورة، و أنا منهم، و جعلوا منها باباً للتندر، أخشى ما أخشاه أن كهكذا مرشّح يصبح غداً نائباً ونصبح نحن كلنا باباً للتندر، و في جوف هذا السّطر تذكّرت أن كلمة جرار في السعوديّة تعني قوّاد، بذلك تصبح الجملة لديهم "يقود قواداً"، أشعر و كأنني في درس صرف اللغة العربية. و بما أنّنا تطرّقنا للإنتخابات، فالإنتخابات في كل الدنيا وجدت لاختيار أو فرز النّخبة إلا عندنا فأظنها فقط للاختيار أو الفرز.
هكذا حتى عرجت بنا الطريق إلى الشوبك التي سمّوها الصليبيون (مونتريال)، و خطرت ببالي فكرة الوحدة العالمية فيصبح الكوابكة شوابكة، و يعودوا عن سرقتهم إسم هو لنا و لن نرضى تبادل الأسماء لتصبح مونتريالهم شوبكاً فهم لا يشاركوننا حلمنا الوحدوي العربي بل أظنهم يشاركوا العالم الحلم الهجروي الكندي.
انحدرت بنا الطريق إلى بترا (لم اضف ال التعريف لاصراري على أعجمية الاسم) ذَهَل أبنائي المنظر الذي لم يذهلني ليس لأنه غير مذهل بل لأنني رأيته سابقاً، فقد زرتها في مطالع ثمانينيات القرن الماضي، تشعرني هذه الجملة بكهولتي (الكهل: الأربعيني الذي اتّشح شعره ببعض ابيضاض و ليس كما يظن البعض أنه العجوز)، كانت تلك الرحلة في ذاك الزمن الجميل، برفقة أهلي، على طريق العقبة القديم، الذي كان يمر بمأدبا إلى الكرك مرورا بوادي الموجب، الذي كان يحتاج لجسر معلّق، لكني أعلم أنه لولا اللّعق لكان كل جسر ببلدي معلّق. نعود إلى رحلتنا هذه، لكن ما أذهلني الإهمال الذي حظيت به تلك الأعجوبة، للأسف، في بلاد زرتها تجدهم يجعلون من خشبة وقف عليها زنديق أرعن تغنى بغانية وضيعة معلماً يحج إليه البشر من كل حدب و صوب، أمّا بترانا فلا بواكي لها.
اتمنى أن لا تكونوا قد تُهْتُم بين السطور، إذ قال بعضهم أنني كمن يقود مركبة لايدري إلى أين يريد أن يصل، و هنا أسأل: مَن منا يعرف إلى أين يتجه ألسنا كلنا من عليّة القوم حتى ليّة القوم خراف تساق إلى أتون المجهول يداعب خيالنا أحياناً ذاك الزّنيم نتاج سفاح بين تفاؤل و أمل الذي أسمياه رضى؟ و لا أدري العين بعليّة هل كانت على و أدغمت ع أم كلنا ليّة؟
هل وصلتم معي لما أريد أن أصل إليه؟ باختصار، بترا أعجوبة جميلة عني بها الأنباط الأوائل و أبدعوها، و كأنما من بعدهم بتر الإبداع و انقطع، إن ببترا تبرا ينتظر من يستخرجه، و كأني بمن لا يريدوا أو يعيقوا استنباط ذاك التبر لغاية في نفس يعقوب أو ليعقوب، دون الحاجة لوضع جلد النعجة عليه.
دمتم بخير.

Sunday, 2 October 2011

كم أنا في شوق للمطر


          كم أعشق تلك الرائحة المنبعثة من أول ملامسة وابل أديم الأرض، كم حرت في أمرها، ما هي؟ .... عطر من أجساد جدي و جدك، قطرات ماء تقبل ذرات تراب كانت يوما وجناتهم التعبة، تسقط بلهفة لقائهم و ضم صدورهم المهمومة، تسرع منهمرة شوقا الى الاحضان الحنونة، ترتجف حين اللقاء تتغلغل هناك شوقا علها تعيد ذكريات من كانوا و على هذا الثرى ساروا، يا هل ترى أيحييي الوابل من كانوا أم هي الذكريات ينعشها الودق.
          لا لا لا تصحوا فيكسّر الندم الشوق و يقتل الحنين، لن تجدوا أي مسرة ستبكون ألم الحال و لن ترونا في ظلمة هذا الليل البهيم، طويل أدهم لا فجر ينهيه، حتى أعشاكم سيكون بيننا بصير، ما العلة بالشمس فكل يوم نراها لكن في القلوب استقرت حلكة صبغت فجرنا سوادا عقيم.
          عذرا حبيبي المصطفى نحن تكاثرنا و تناسلنا لكن لسنا نحن من تباهي بهم الأمم، لا بل نحن غثاء سيل استجره عباب فباتت الارض صلدة جرداء و السهل عقيم.

فارس غرايبة     

Thursday, 29 September 2011

كَوثِر يا شيخ كَوثِر


كل يوم تزداد قناعتي بأننا نمر بأزمة وقت، لا لقلته بل إمعانا بتصنّع التصرفات الزائفة حرصا على عدم إضاعته، فترى شاب مسرع بمركبته يرتكب كل المخالفات المنصوص عليها و غير المنصوص عليها لأنه في عجلة من أمره، إذ هو خارج إلى اللا مكان، أي أنه و بمصطلح الشباب يلفلف، رغم لفلفته لتضييع الوقت إلا أنه حريص كل الحرص على أن لا يضيع وقته فيسرع ليلفلف دون إضاعة الوقت و هدره دون فائدة.
نسرع و نحن من أكثر الشعوب إخلالا بالمواعيد، نسرع و نحن من أقل الشعوب سرعة بالإنجاز هذا إذا إفترضنا وجود أي إنجاز، حتى و إن كنت من القلة التي فعلا تحتاج الوقت لزيادة إنتاجيتك فلا أدري لم العجلة إذ عاجلا أو آجلا ستصطدم حكما بآخرين، هم جزء من سلسلة حلقتك الإنتاجية، يضيعون ما استطعت توفيره من وقت، معللين تصرفاتهم بالحكم القاتلة على شاكلة "كل تأخيرة و فيها خيرة".
لأهمية الوقت في حياتنا لا يمكن أن نوقف مركبتنا إلا على بوابة المكان المقصود تماما و إن كان خلف أحدهم فهو ليس بالعجلة التي نحن بها و وقته ليس بأهمية وقتنا فلا ضير في أن أعطله.
على إشارة المرور تصعقك المنبهات من كل حدب و صوب إذا ما بادرت الإشارة و أقتربت من بلوغ اللون الأخضر، حتى أن إشاراتنا الضوئية ما عادت تعترف باللون الأصفر فباتت تقفز الى الأخضر فورا، فأنت لا تعلم كم الانتاج المهول الذي ننتجه بثوان اللون الاصفر.
دائما نردد كلمة "نلحّق"، نلحق مكان، نلحق قبل حلّة الدوام، نلحق قبل ما يروحوا، نلحق قبل الأزمة، نلحق قبل ما تغيب الشمس، نلحق قبل ما تطلع الشمس، نلحق قبل ما تشتي، نلحق قبل ما تثلج، نلحق قبل ما تشوّب، نلحق قبل ما تبرّد، نلحق قبل ما يسكّر، نلحق قبل ما يفتح، نلحق قبل ما ينام، نلحق قبل ما يصح، نلحق قبل ما يخلصوا، نلحق قبل ما يبرد، نلحق قبل ما يسخن، نلحق قبل ما تطفي، نلحق قبل المدير، نلحق نلحق نلحق و في ضياع الاسباب نلحق حالنا.
حتى وصل بنا الحرص على الوقت أن نوصي الإمام أن يكَوثِر بالصلاة، لا أقصد أن الوقت غير مهم، لكن أهمية الوقت تقاس بكم الإنجاز لا بوفرة الفائض منه.

فارس غرايبة