في خضمّ هذا الفيض الجّارف من أعاصير التصنّع السّاذج، و ابتذال الوطنيّة و الانتماء، إستَعصفت ذاكرتي قصّة عن شخص قريب منّي أشدّ القُرب ما مِن اقرب لي منه دما، كان تلك الأيّام ضابط شرطة في جرش، تلك الأيّام كانت سنة سبعين من القرن المنصرم، و معظمنا سمع عن ما حدث تلك الآونة خصوصا في جرش، حينما اقترب موعد الحل من انتقال الطّرف الآخر و ترتيبات خروجه، حدث أن أحد أعضاء الطّرف الآخر تواصل مع ذاك الضّابط موصيا إيّاه ببقيّة أسرته، من زوجة و أطفال الموجودة آن ذاك في عمّان و مدى خوفه عليهم، طمأنه الضّابط واعدا إيّاه بالتّصرف دون أن يُقسم بإله عظيم أو شرف مصون، صرّح ذاك الرجل للضّابط بكلمة إشارة، كان اتّفق عليها مع زوجته أن من ينطق بها أهل ثقة و عليها طاعته، و بعد أيّام من رحيل من كانوا بالجبال إلى الحدود السوريّة، ذهب ذاك الضّابط بلباسه العسكري إلى مكان أسرة الرجل ذاك ناطقا لزوجته بالكلمة الإشارة، و اخذ الزّوجة و الأولاد مجازفا بكل شيء نعم كل شيء، و نقلهم إلى الحدود و أمّن خروجهم، و بعد أن مرّ الزّمان و أصبح هناك سلطة فلسطينيّة، إذ صار الرجل مديرا لشيء ما هناك في السّلطة بفلسطين، و أصبح بالإمكان دخول الأردن، فما كان منه إلا أن سعى للتّواصل مع ذاك الضّابط، لم نسمع تلك القصّة من الضّابط القريب بل من ذاك الرجل الآتي من فلسطين، لم يذكرها لنا القريب يوما لم يجاهر بها أبدا، ليس خوفا من شيء فنحن أقرب من أن نُفشي سرّا إلا أنها المروءة التي تمانع صاحبها التبجّح و التّفاخر، نعم كانا مختلفان كل الاختلاف بالمبادئ و الأفكار، لكن جمعهما شرف العسكري، ذاك الضّابط الآن في دار الحق رحمه الله، و الآخر حيّ يرزق أمدّ الله في عمره، بعضكم سيعرف من أقصد رحمنا الله جميعا.
إخواني، أريد أن أشير إلى بعض ما استخوفكم الآخرون منه، و روّجوا لأن تؤول الأمور لغيركم، بالوزارة السابقة "وزارة سمير الرفاعي" كان كل رؤساء السّلطات الثّلاث التنفيذيّة و التشريعيّة بشق الأعيان منها و القضائيّة من أصول ليست شرق أردنية، و لم يختلف الوضع عن ما كان عليه في الأيام التي كانت به رئاسة السّلطات غير ذاك، قصدي من القول شقّين، الأول أن الأردني شرقيّا، غربيّا، أيّا أصله كان لا يضيره ذلك إن استصدق نفسه، و الشق الثاني أن الأردني لم يكن يوما عنصريّا إلا أنّ لعنة الله على شياطين الإنس و الجن، و لا يجوز أن نحكم على خلق الله حسب أصولهم أو أسمائهم أو حتى أشكالهم بل حسب أفعالهم أفرادا.
تعاود الذّاكرة و تطفو أمامي قصّة حدثني بها صديق مصري، هذا الصديق من الضبّاط الذين شاركوا بحرب اليمن، عفوا لا تظنوا أنني بذاك العمر فهو صديقي رغم فارق السّن كما أنّني أصادق ابني، كان ذاك الصّديق قائد قطاع في الجّيش المصري، و كانوا مُرابطون في موقع يحاربون ضدّ أتباع الإمام، حسب وصفه كانت المنطقة شديدة الوعورة و كان هناك احد أتباع الإمام قنّاص ماهر، يباغتهم كل ليلة فيقنص من العسكر كل مَن بدا له، و في النّهار يختفي و لا يظهر له أثر، و كان من الحرص أن يختفي كلّما شعر بأي خطر و يلوذ بجنح الظّلام، فأعلن الضّابط صديقي أنّه سيمنح مكافأة لمَن يخلّصهم من ذاك القنّاص، فأعلن أحد الموجودين وهو شاب من اليمنيين الملتحقين بالقوّات المصرية عن استعداده للقيام بالمهمّة، فما كان من صديقي إلا أن أكّد عليه مستفسرا عن قدرته، إلا أن ذاك الشّاب اليمني أصرّ و أكّد على قدرته، فما هي إلا أيّام و ما عاد لذاك القنّاص وجود، و أتى ذاك الشّاب مطالبا بالمكافأة، أصرّ صديقي الضّابط عليه أن يعرف الطّريقة التي تمكّن من خلالها الوصول إلى ذاك القنّاص، فما كان من ذاك الشّاب إلا أن أجاب "إن ذاك القنّاص أبوه"، إقشعرّ بدن صديقي لمّا سمع ردّ ذاك الشّاب، و في اليوم التّالي، كانت المدفعيّة أمام مهمّة قصف لمواقع أنصار الإمام، فما كان من صديقي إلا أن أعطى آمر المدفعيّة إحداثيّات موقع تمركز ذاك الشّاب، فالتفت آمر المدفعيّة يعلمه أن الهدف صديق، فاخبره قائلا بلهجته المصريّة " اضربه ده باع أبوه بكم ارش حيبيعك ببلاش اضرب" فكانت نهاية ذاك الشّاب، ذكرت هذه القصّة تأكيدا على أن الحكم على النّاس بجريرة بعضهم حتى مَن مِن صُلبهم خطأ أحيانا.
إخواني، رحم الله أجيال الأيّام الصّعبة، أيّام الأمبليه، الأمبليه لا أعرف أصل الكلمة لكن للتوضيح هي عملية الدّوس مرّتين على "الكلتش" بين كل تبديل للسّرعة و بين كل سرعة و أخرى، رغم الأمبليه كانوا يبتسمون.
فارس غرايبة